في 12 شباط 2019، أصدرت جمعية المصارف تعميماً (يحمل الرقم 68/2019) بشأن «معدل الفائدة المرجعية في سوق بيروت»، وينصّ على أن مجلس إدارة جمعية المصارف قرّر في اجتماعه بتاريخ 12/2/2019 توصية المصارف الأعضاء اعتماد المعدلات الآتية بدءاً من مطلع شهر آذار: 9.29% في سوق بيروت للدولار الأميركي، و12.39% في سوق بيروت لليرة اللبنانية. ويضيف التعميم: «للتذكير، فإن هذه المعدلات لا تحلّ محل معدلات الفوائد المدينة الفضلى، بل تشكّل قاعدة لاحتسابها بعد إضافة نوعية مخاطر الائتمان والربحية بالنسبة للتسليفات والقروض بالدولار وبالليرة».
بهذه التوصية تكون أسعار الفائدة المرجعية على الدولار قد ارتفعت من 6.2% في 2016 لتبلغ 8.2% في كانون الأول 2018 و8.58% في كانون الثاني 2019، أي إنها ارتفعت 3 نقاط في غضون سنتين، وارتفعت نقطة مئوية منذ مطلع 2019 إلى اليوم. أما أسعار الفائدة المرجعية على الليرة فهي كانت 8.7% في نهاية 2017 ثم ارتفعت إلى 11.5% في نهاية 2018 و11.9% في نهاية كانون الثاني 2019، أي إنها زادت أكثر من 3 نقاط مئوية في غضون سنتين، وزادت 0.89 نقطة في 2019.
بحسب هذه الأرقام، بات واضحاً أن أسعار الفوائد تواصل الارتفاع رغم كل ما يشاع عن تطوّرات سياسية إيجابية ظهرت مع تأليف الحكومة. مذذاك، سرى اعتقاد خاطئ في الأسواق، بأن الأزمة المالية التي تخنق اقتصاد لبنان، توقفت عند حدّها ولم تعد قابلة لمزيد من التفاقم والتدهور، لأن عملية التأليف هي خطوة إيجابية قائمة بذاتها، وستعيد بناء «الثقة» اللازمة لتجاوز الأزمة. على الأقل هذا ما اعتاد أن يشيعه المصرفيون وكبار التجار وأصحاب الرساميل عموماً، بعد نهاية كل أزمة سياسية. درجوا على القول إن الأزمة منشؤها سياسي، وأن زوال الأسباب يؤدي إلى زوال النتائج. مروّجو هذه الأفكار يعتقدون، ربما، أن التصريحات الإعلامية تعيد بناء «الثقة» التي تدمّرت خلال السنوات الماضية ولم تعد قادرة على استقطاب الدولارات من الخارج. يخفون أن الأزمة بنيوية وليست ظرفية، بدليل أن ميزان المدفوعات يسجّل عجزاً متتالياً منذ 2011 إلى اليوم بلغ 14.8 مليار دولار. وفي منتصف عام 2016 ظهرت هشاشة هذه الثقة مع لجوء مصرف لبنان إلى الهندسات المالية التي شكّلت بديلاً من رفع أسعار الفائدة، إلا أنه بعد كلفتها الباهظة وزوال نتائجها خلال بضعة أشهر والانتقادات التي وجهها صندوق النقد الدولي لمصرف لبنان، عاد هذا الأخير إلى استعمال الأداة التقليدية لاستقطاب الدولارات من الخارج، أي رفع أسعار الفائدة.
بهذا المعنى، فإن أسعار الفائدة تعكس مستوى المخاطر في لبنان، إذ كلما تدهورت الثقة (مع عوامل أخرى طبعاً)، ارتفع مستوى الفوائد.
على رأس الشريحة التي تشيع الأجواء الإيجابية، يقف تجار العقارات الذين يقفزون فوق المنطق بادعاء أن أسعار العقارات قابلة لاستعادة مستوياتها المرتفعة السابقة، لا بل الارتفاع أيضاً بمجرّد تأليف الحكومة. كذلك هناك المصرفيون الذين يخوضون الأزمة بتفاصيلها من ارتفاع أسعار الفوائد، إلى تخلّف الزبائن عن السداد، والتحايل على الديون المتعثّرة من خلال عمليات إعادة الجدولة بالجملة والمفرق، ثم التركيز على المؤونات بدلاً من الخسائر، فضلاً عن جمود التسليفات، والصراع على الودائع، وصعوبة جذب التدفقات من الخارج… رغم كل ذلك يفضل المصرفيون «غشّ» الزبائن بكلام معسول على أمل بناء تلك «الثقة».
المشكلة أن فكرة تلميع وتجميل صورة النموذج المنهار لم تقتصر على هذه الشريحة، بل شملت أيضاً مسؤولين رسميين. فعلى سبيل المثال، استقبل رئيس الجمهورية ميشال عون حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في 5 شباط وتبلّغ منه «التطورات الإيجابية». سلامة قال بعد اللقاء إنه بعد تشكيل الحكومة «أصبح الدولار معروضاً في السوق المحلية لشراء الليرة اللبنانية، وهذا يعيد تعزيز دور العملة الوطنية في الادخار». وفي اليوم التالي، أي في 6 شباط، استقبل عون وفداً من تجمّع رجال الأعمال. بعد الزيارة، صدر بيان عن المكتب الإعلامي في القصر الجمهوري طمأن فيه عون بأن «كل المعطيات تبشّر بمرحلة صعود في لبنان لأن الازمات باتت وراءنا، والوضع المالي يتحسّن، ومن المتوقع أن تبدأ الفوائد بالانخفاض قريباً». أيضاً وزير الاتصالات محمد شقير كان يقول قبل تأليف الحكومة إن لبنان «على شفير الانهيار، يجب إنقاذ الوضع قبل فوات الأوان»، وبعد التأليف أعرب عن عدم رغبته في استخدام كلمة انهيار، لافتاً إلى أن «الأمل كبير في المستقبل».
هذه عيّنة عشوائية مما بعد التأليف. بقدر ما يبدو المشهد «غنياً» بالتفاؤل، إلا أنه في موازاة الوقائع السوقية يبدو مشهداً هزلياً. فالسوق لا تزال تعاني من نقص حادّ في الدولارات. بحسب مصادر معنية، فإن شركات الاستيراد تعاني للحصول على الدولار. شركات استيراد الأغذية وشركات استيراد الملابس وشركات استيراد المحروقات وكل الشركات التي تستورد سلعاً أساسية أو كمالية تتنافس على السيولة الشحيحة بالدولار المتوافرة لدى المصارف. فهذه الشركات تستورد سلعاً من الخارج وتدفع ثمنها بالدولار، وتبيعها في السوق المحلية بالليرة اللبنانية، أي إنها بحاجة إلى تحويل إيراداتها من الليرة إلى الدولار لتدفع ثمن مستورداتها، لكنها اصطدمت بشحّ السيولة بالدولار لدى المصارف. هذا الوضع لم يتبدّل منذ تأليف الحكومة إلى اليوم.
أكثر من ذلك، إن التعميم الذي أصدره مصرف لبنان والرامي إلى دعم القروض السكنية، كان مشروطاً بأن يكون لدى المصارف دولارات تحوّلها لدى مصرف لبنان إلى ليرات تستعمل في القروض المدعومة، إلا أنه تبيّن أن الغالبية العظمى من المصارف ترفض التخلّي عن سيولة الدولار مقابل قروض بالليرة على المدى الطويل، حتى وإن كانت هذه القروض مدعومة وتحقق للمصارف أرباحاً مهمة. ورغم أن هذا الدعم لا يغطّي أكثر من ربع الطلب على القروض السكنية، إلا أنه لا ترجمة فعلية له في السوق بسبب الشحّ في الدولارات.
في الواقع، هناك تقصّد في إغفال الارتفاع الذي طرأ على أسعار الفائدة على سندات الخزينة بالليرة في مطلع السنة الجارية بعد ضغوط واسعة قادها مصرف لبنان وجمعية المصارف. أسعار الفائدة ارتفعت من 7.46% إلى 10.5%، ما يرتّب تداعيات كارثية على خدمة الدين العام. خلال ثلاث سنوات سترتفع خدمة الدين إلى 11600 مليار ليرة، أي 7.7 مليارات دولار.
وفي موازاة هذا الأمر، فإن الكلفة الأكبر سيتكبّدها الاقتصاد الحقيقي. ارتفاع أسعار الفائدة بات أعلى بكثير من معدلات الربحية في القطاعات الاقتصادية، ما يعني أن المستوردين والمصدرين سيكون عليهم أن يرفعوا الأسعار لتعويض كلفة الفائدة عليهم، والتخفيف من كلفة التشغيل، أي صرف موظفين وإغلاق خطوط إنتاج… ارتفاع أسعار الفوائد يساهم في تدمير الاقتصاد. يتردّد في السوق أن حالات الإفلاس ارتفعت بشكل مخيف. طبعاً، المستوردون سيرفعون الأسعار على المستهلك المحلي، فيما المصدرون قد لا يكون بإمكانهم رفع الأسعار على مستهلكي الدول التي يصدرون إليها، وبالتالي باتوا في موقف صعب بعدما تراجعت قدرتهم التنافسية.
هذا بعض مما يحصل في السوق. جزء بسيط يدلّ على أن المخاطر حقيقية ومستمرة بدرجة مرتفعة. الديون على القطاع الخاص تزيد على 60 مليار دولار أو ما يوازي 110% من الناتج المحلي الإجمالي، والأسر اللبنانية تأكلها الديون، إذ إنها مدينة بأكثر من 21.5 مليار دولار، أي أكثر من نصف الدخل المتاح لها للاستهلاك، وأكثر من 40% من مجمل الناتج المحلي. ارتفاع أسعار الفوائد يهدّد جدياً بسحق ما تبقى من اقتصاد حقيقي.
مكوّنات الفائدة المرجعية
تصدر جمعية المصارف، دورياً، توصيتها بشأن أسعار الفوائد من أجل تمكين المصارف من احتساب أسعار الفوائد السوقية على التسليفات بالاستناد إلى مجموعة مكوّنات، أبرزها كلفة الودائع (الفائدة على الودائع) وكلفة التشغيل، ثم تضاف إليها كلفة المخاطر والربحية. بمعنى ما، فإن الفائدة المرجعية هذه توازي أسعار الفائدة على القروض الجديدة أو المجدّدة، وهي مؤشّر أساسي لاحتساب الفائدة على القروض والتسليفات. وبحسب مصادر مصرفية، فإن غالبية المصارف تحدّد ما بين نقطتين و4 نقاط إضافية على الفائدة المرجعية لتحديد كلفة التسليفات والإقراض.
” محمد وهبة الاخبار “
زر الذهاب إلى الأعلى