مقالات صحفية

“التعافي الصعب” بقلم الكاتب السياسي جوني منيّر

الأكيد أن مقررات جلسة مجلس الوزراء الأخيرة إمتصت الإحتقان الذي كان بلغ ذروته مع بدء انعقاد الجلسة. فعلى مدى الأيام التي سبقت توالت الرسائل السياسية والإعلامية والتي بلغت حد التهديد، وهو ما أدى الى رفع منسوب التوتر الشعبي الى الحد الأقصى، وسط رفع مستوى الجهوزية لدى وحدات الجيش اللبناني. لكن رفع “راية النصر” من قبل كل الأطراف فور إذاعة مقررات الجلسة أدى الى تنفيس الأجواء المحتقنة. وهو ما دفع للتساؤل ما إذا كان الجميع ربح حقا؟ أم أن ما بين السطور المثير من القطب المخفية؟
الثابت أن حال الإرتياح سادت أوساط السلطة اللبنانية، وهو ما دفع للإستنتاج بأنها نجحت في الجمع بين المطالب الأساسية وفق سقف مقررات جلستي الخامس والسابع من آب الماضي وبين النقاط التي تمسك بها الثنائي الشيعي. ولكنها في الوقت عينه ليست “تخريجة” صورية على الطريقة اللبنانية المعهودة. فهنالك بنود تنفيذية لا يمكن التغاضي عنها ولو أنها صيغت بعبارات مرنة. فالأكيد أن خطوط التواصل بين رئيس الجمهورية العماد جوزف عون ورئيس المجلس النيابي نبيه بري بقيت ناشطة وبقوة حتى مع انعقاد الجلسة. وما من شك بأن بصمات بري طبعت جوانب عدة من البنود التي جرى إقرارها. وفي الوقت عينه كان بري يجهد لتدوير الزوايا الحادة مع قيادة حزب الله، وعلى أساس تمسكه بوجوب إيجاد حلول معقولة، وعدم الإنزلاق للعبة الشارع، والتي ستعني المزيد من الخسائر بأثمان مرتفعة. ومن هنا لفت إصرار الوزراء الشيعة على التأكيد بأن خروجهم من الجلسة لم يكن فور دخول قائد الجيش، بل أنه حصل بعد مصافحته وهو ما يعني أن خطوتهم ليست موجهة ضده أو ضد الجيش كمؤسسة.
في الشكل جاءت الصياغة مرنة كمثل “اطلاع” مجلس الوزراء على خطة الجيش. ذلك أن قيادة حزب الله كانت قد أبلغت بأن الموافقة على الخطة سيدفع للذهاب الى تصعيد على أنواعه ومن دون سقوف. لكن العبارة المرنة في الشكل لا تلغي المضمون بالموافقة على الخطة. لكن حزب الله قد يكون اعتبر أنه حقق نقاط ثلاث ثمينة:
أولا، أنه نجح بترويض “الوزير الملك” فادي مكي وألزمه بالدوران في فلك الثنائي.
ثانيا، أن القرارات تجاوزت البرنامج الزمني الذي كان محددا، وجعل المدة الزمنية مفتوحة.
وثالثا، أن برنامج التنفيذ تضمن ربطا بطريقة أو بأخرى بخطوات لا بد أن تقوم بها إسرائيل.
لكن في المقابل فإن مجلس الوزراء استمر في استكمال اجتماعه للمرة الثالثة بعد انسحاب كامل المكون الشيعي. ما يعني تجاوز مسألة “الميثاقية” والتي كان بدأ طرحها كشرط أساسي لشرعية الجلسة منذ حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في العام 2005 وهي الحقبة التي شهدت الصعود القوي للنفوذ الشيعي في الدولة اللبنانية. كذلك فإن جلسة الخامس من أيلول أكدت استكمال ما كان تقرر في جلستي الخامس والسابع من آب الماضي، وهو ما جرى ذكره بوضوح وأكثر من مرة في المقررات. وأما بالنسبة للبرنامج الزمني، فجرى اقتصاره فقط على المرحلة الأولى، أي منطقة جنوب الليطاني والتي أعطيت حدا أقصى لتنفيذها بشكل كامل قبل نهاية العام. أما المراحل الباقية فكانت غير محددة زمنيا، رغم أن قائد الجيش ملزم برفع تقرير شهري حول الخطوات التي سيعمل لتحقيقها كما ورد في الخطة، وهو ما جرى تفسيره وكأنه بمثابة بديل عن البرنامج الزمني المحدد.
لكن الأهم هو البدء فورا بمنع أي سلاح ظاهر خارج إطار المؤسسات العسكرية والأمنية الشرعية تحت أي مسمى كان.
لكن ثمة مشاكل حقيقية تواجه إتمام الجيش لمهامه، وهو ما عرضه قائد الجيش على مجلس الوزراء خلال الإجتماع. فالجيش الذي يتولى مهام ومسؤوليات أكبر من طاقته وعلى كامل المساحة اللبنانية ومنذ سنوات طويلة بات بحاجة لعديد إضافي من ضمن الخطة الموضوعة. فحتى العديد المطلوب لانتشاره في منطقة جنوب الليطاني لم يتحقق بعد. وفي الوقت نفسه فإن الرواتب المتدنية للعسكريين والواقع الصعب للخزينة اللبنانية يقفان حائلا أمام نجاح فتح أبواب التطويع. أضف الى ذلك أن الجيش بحاجة ماسة لمعدات وآليات تستطيع تلبية المستلزمات اللوجستية للقوى العسكرية. فالآليات التي يملكها الجيش قديمة وجرى استهلاكها. والكلام هنا عن الحاجة الى مئات الآليات الجديدة إذا لم يكن أكثر. وبالتالي يصبح السؤال حول كيفية تأمين عمليات تطويع جديدة، وتزويد الجيش بآليات ومعدات جديدة وحديثة.
وصحيح أن رد الفعل الأميركي على مقررات جلسة الوزراء كانت إيجابية ولو أنها مشروطة بتنفيذ بنودها، لكن الأهم تأمين المساعدات الملحة التي يحتاج لها الجيش لتمكينه من إتمام تطبيق خطته. وتردد هنا أن الرئيس الفرنسي، والذي يتابع التطورات اللبنانية رغم الأزمات السياسية التي تعصف بفرنسا، سيباشر تحركا على مستوى الدول المصنفة صديقة للبنان لتأمين ما أمكن من الإحتياجات الملحة للجيش، وعلى رأس هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن التركيز على الجوانب اللبنانية البحتة لإنجاز المهمة المطلوبة يبقى جزئيا لا بل ناقصا. فالجانب الأهم لأزمة السلاح في لبنان تبقى إقليمية، وأي معالجة دون الإلتفات الى ذلك تبقى ناقصة لا بل قاتلة، وفق ما علمتنا إياه دروس التاريخ. فالأوساط الدولية مقتنعة بقوة ووفق معلوماتها ومسار الحرب الأخيرة، أن الصواريخ الدقيقة والبالستية وطائرات الدرون المتطورة تخضع لقرار إيراني كامل. وهو ما يفسر، حسب الأوساط نفسها، أسباب عدم إستخدامها وعلى أساس تجنب دفع إسرائيل لتوسيع دائرة الحرب ومهاجمة إيران وسط تهديدات إسرائيلية متتالية. ولكن هذا لم يمنع استدارة الآلة العسكرية باتجاه إيران لاحقا. المهم أن إيجاد حلول حاسمة لهذا الملف لا يمكن أن يحصل بمعزل عن طهران التي تتحضر لاستئناف مفاوضاتها مع واشنطن. وهنا تصبح الملفات متشابكة أكثر. فإيران التي تلقت ضربة عسكرية طالت منشآتها النووية تعرضت لخسارة استراتيجية إضافية مع الإعلان عن ممر زنغزور الذي يربط أذربيجان بتركيا. فالممر يرسخ نفوذا أميركيا طويل الأمد في جنوب القوقاز على حساب الدور الإيراني. أضف الى ذلك خسارة نفوذها في سوريا، وتراجع قوة حزب الله، وظهور نقاط الضعف العسكرية والأمنية داخل خلال الحرب عليها. كذلك سقوط الرهان الإيراني على السند الروسي، ما شكل خيبة أمل كبيرة لها. ووسط كل ذلك تبدو إيران ملزمة بالتمسك بكل أوراقها المتبقية، وفي طليعتها ورقتي حزب الله والحوثيين.
والمسألة الأكثر حساسية تستند الى القلق الداخلي. ففي علم السياسة هنالك مبدأ عام يعتبر أنه مع كل خسارة استراتيجية خارج الحدود يرتفع مستوى الخطر من حصول تفسخ في التماسك الداخلي. وفي مجتمع كالمجتمع الإيراني متعدد الأعراق ويرزح تحت ضغوط إقتصادية وقيود سياسية، يرتفع منسوب الضغوط والتذمر الداخلي ما يجعل المس بالإستقرار الداخلي إحتمالا قائما.
وتروي الأوساط الديبلوماسية بأن النقاش الداخلي ما يزال صاخبا بين وجهتي النظر حيال السياسة الواجب اتباعها. فهنالك من بات يدعو علنا وعبر الإعلام لتجاوز مسألة جعل إيران دولة نووية لأنها لم تنتج سوى الكوارث على إيران، واستبدال ذلك برؤيا جديدة ترتكز على المصالحة مع العواصم الكبرى وإعادة بناء اقتصاد إيراني قوي ومتين. لكن الرأي الآخر يعتبر أن إيران ما كانت لتتعرض للضربة العسكرية لولا الخسائر التي تلقاها حلفاؤها في المنطقة. ما يعني أن الحل هو بإعادة بناء القدرات العسكرية للمجموعات المتحالفة معها وخصوصا حزب الله والحوثيين، والرهان على الوقت الذي قد يطيح بسلطة الشرع، ما سيسمح بإعادة بناء قدراتها النووية. وحتى الآن فإن القرار يميل لوجهة النظر الثانية.
لكن ثمة مؤشرات لا بد من الأخذ بها ولو بسرعة، نظرا لأهميتها على المجريات المستقبلية للأحداث.
الأول ويتعلق بما جرى الكشف عنه ويتعلق بافتتاح إسرائيل لمنشأة تدريب جديدة في مرتفعات الجولان تحمل إسم “منشأة لبنان”. وهي صممت لمحاكاة ظروف قتالية داخل المناطق السكنية اللبنانية. فمع حكومة يمينية تحمل مشاريع كبيرة، لا بد من التحسب لاحتمال قيام نتنياهو بمغامرة جديدة إنفاذا لرؤيته الإيديولوجية. ما يعني وجوب قطع الطريق عليه، لا منحه الذرائع.
والثاني، ويشير الى الإخفاقات الداخلية التي بدأت تحاصر دونالد ترامب. فوفق استطلاع أجرته جامعة ميشيغان ظهر أن الأميركيين متشائمين من مستقبل وضعهم الإقتصادي. ويتوقعون إرتفاع الأسعار بنسبة 4,8% خلال العام المقبل، والسبب يعود للرسوم الجمركية التي فرضها ترامب والتي ستكلفه على ما يبدو خسارة المزيد من الأصوات الإنتخابية. وهو ما يجعل ترامب المحشور داخليا أكثر تهورا وميلا لتحقيق “انتصار”، تماما كما فعل عندما استهدف المنشأة النووية الإيرانية.
أما المؤشر الثالث فهو من تركيا مع النتائج التي أصدرتها مؤسسة ساروس للأبحاث حول استطلاع أجرته تحت عنوان “أجندة تركيا السياسية”، والذي أجرته في شهر آب الماضي وشمل 7487 شخصا في 26 ولاية. ففي هذا الإستطلاع تفوق رئيس بلدية اسطنبول المسجون أكرم إمام أوغلو بنسبة 54,2% على أردوغان 45,8% في انتخابات رئاسة الجمهورية. أما المفاجأة الأكبر فكانت مع نيل رئيس بلدية أنقرة منصور يافاش نسبة 59,1% مقابل 40,9% لأردوغان. كما أيد 74% من المستطلعين إجراء انتخابات مبكرة. وهو ما يعني أن أردوغان بحاجة لانتصار يصرفه في الداخل. والساحتين السورية والعراقية مهيئتان لذلك.
صحيح أن لبنان يعمل على استعادة استقراره وتعافيه ولو ببطء، لكن أبواب المخاطر ما تزال مفتوحة، وهو ما يستوجب الإتعاظ من دروس الحرب الأخيرة، وتجاوز ما تبقى من حقل الألغام بحذر وروية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى