
“تجدني في لبنان وأرمينيا، ولا تجدني في كندا…” هذه مقولتي الدائمة ليس لأن كندا لا تستحق الاحترام، بل لأن ما أبحث عنه لا يُقاس برفاهية مادية أو بنظام صحي متطور , بل بهوية، بانتماء وبذاكرة . كندا كما يعرفها العالم بلد الفرص والحرية والمساحات الواسعة. فيها النظام والحقوق المصانة ، وفيها الكثير من أسباب الراحة . لكنها كغيرها من بلدان الهجرة، تغيّرت كثيرًا في العقود الأخيرة. بعض مقاطعاتها باتت أشبه بجزر ثقافية معزولة، تستوطنها جاليات آسيوية ضخمة من باكستان والهند وسواها، حتى بات الزائر يشعر أنه في دولة أخرى داخل الدولة الأم .
فالتنوّع اصدقائي، حين لا ينصهر يُربك الهوية. ويكفي أن تتجوّل في شوارع كندية كبرى لتدرك أن الطابع الكندي الكلاسيكي قد تراجع أمام طوفان ثقافات مهاجرة لم تندمج بل فرضت أنماطها الخاصة. لم يعد الشعور بالانتماء إلى كندا متاحًا للجميع، بل أصبح مشروطًا بتقبّل واقع جديد لا يشبه الماضي ولا يشبه الكثير من أبناء الوطن الجدد. في المقابل، في لبنان وأرمينيا، رغم الأزمات والانكماش الاقتصادي والسياسي، لا يزال الإنسان يلمس جذوره. في زوايا البيوت القديمة، في شجر الأرز والصنوبر الذي يواجه العواصف، في الكنائس والقبب والقبور، هناك ذاكرة، وهناك معنى. لبنان ليس فقط وطنًا جميلاً، بل هو حالة وجدانية يعيشها كل من تنشّق هواءه وسمع فيروز عند شروق الشمس. هو أرض تتكلم لغتك، وتحفظ قصص أجدادك، وتذكّرك أنك أكثر من مجرّد رقم في ملف هجرة.
في أرمينيا تجد الصفاء والبساطة والوقت الكافي لتزرع وتنتج وتبني دون أن تُخفي ملامحك. الوطن هو القلب الذي يفتح لك بابه حتى وأنت مثقل بالهموم. قالوا: الهجرة هي خلاص. قلت: أحيانًا الغربة هي سجن ناعم. الهجرة ليست دومًا ملاذًا، بل قد تكون غربة من نوع آخر… غربة عن النفس. وقد تكون “الضجيج الصامت” لمدن فقدت روحها وسط زحمة ثقافات جديدة، لم تنصهر بل تفرّعت وتنافست.انا اخترت أن أكون حيث التراب يعرف اسمي. حيث اللغة التي أنطق بها لا تحتاج ترجمة في عيون الناس. حيث المستقبل لا يُبنى على جواز سفر جديد، بل على وفاء للأرض، وللأجداد، وللإيمان بأن ما نزرعه هنا، قد يثمر هناك. في النهاية، قد تمنحك كندا سكنًا، لكن لا تمنحك حكاية. أما بلادنا رغم جراحها فهي بيت الحكاية… وحيث تكون الحكاية …..يكون القلب.