مقالات صحفية

“إستئناف الحرب أقوى من التسويات” بقلم الكاتب السياسي جوني منيّر

يوم الإثنين المقبل يزور رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو واشنطن للقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب في رابع زيارة له الى البيت الأبيض منذ عملية “طوفان الأقصى”. ومطلع الأسبوع القادم يصل الموفد الرئاسي الأميركي السفير توم براك الى بيروت في زيارة هي الثانية له في إطار مهمته اللبنانية. صحيح أنه ليس هنالك من علاقة مباشرة بين الزيارتين، إلا أن التقاطعات عديدة. ففي الزيارة الأولى تقييم لنتائج الحرب مع إيران واستعراض لما آل إليه نفوذ إيران في المنطقة. أما في الزيارة الثانية فثمة اجوبة واضحة من المفترض أن يحملها براك معه الى واشنطن قبل تحديد كيفية التعاطي مع لبنان في المرحلة المقبلة.
حتى الآن لم يجر الإنتهاء من وضع التصور اللبناني النهائي على ورقة براك، ما يدفع للإستنتاج منطقيا بأن حزب الله وهو الطرف الحقيقي المعني بالورقة الأميركية، ما يزال متمسكا بقراءة مختلفة للمرحلة المقبلة. صحيح أن شيئا من المرونة ظهر على موقف قيادة الحزب خلال الساعات الماضية، إلا أنه ما يزال من المبكر الحديث عن حصول تطور نوعي. لكن الهامش يضيق أكثر فأكثر أمام لبنان كلما تقدم الوقت. فخلافا لأي مرحلة تفاوضية سابقة فإن إدارة ترامب لا تبدو وكأنها تمارس الضغوط “لتحصيل” ما يمكن تحصيله من نقاط، ذلك أن العنوان مختلف هذه المرة. فالمرحلة هي مرحلة تنظيم خارطة سياسية جديدة في الشرق الأوسط على ضوء الحروب التي هزت أوصال ساحات النفوذ الإيراني، والتي طالت في مرحلتها الأخيرة إيران نفسها. والأهم أن واشنطن وتحت إمرة إدارة ترامب كما إدارة جو بايدن قبلها، إنخرطت في هذه الحروب وغطست بالكامل، مرة بشكل مباشر ومرة أخرى من خلال فتح أبواب الدعم العسكري اللامحدود للجيش الإسرائيلي. لكن الواقع الخطير بالنسبة للبنان أن الحالة الحربية ما تزال مفتوحة، مع استمرار الغارات والإستهدافات اليومية، ومن دون أن تسعى واشنطن جديا لإلزام إسرائيل بوقف النار وتطبيق الإتفاق الذي جرى التفاهم حوله رغم وجود ضابط أميركي على رأس اللجنة المكلفة بالسهر على وقف إطلاق النار. وهو ما يدفع للإستنتاج بأن واشنطن متفهمة للقرار الإسرائيلي بترك لبنان تحت وطأة استمرار الحرب ولو بوتيرة متقطعة وبوتيرة منخفضة، ما يسمح برفع مستوى السخونة واستعادة زخم الحرب عند أول مناسبة. ومن هنا يمكن تفسير كلام براك بأن واشنطن ستتخلى عن لبنان وتدير ظهرها في حال رفض حزب الله التخلي عن سلاحه بأنه يعني بأن إدارة ترامب لن تردع إسرائيل عن الذهاب الى الحلول العسكرية، كي لا نقول أنها ستؤمن الغطاء لها.
وللنظر بواقعية الى حقيقة خلفيات الموقف الأميركي فإن واشنطن لا تهدف فقط لتأمين الدعم لإسرائيل بقدر ما أنها تريد إخراج النفوذ الإيراني من الساحل اللبناني بعد أن نجحت في إخراجه من سوريا، وتعمل على تثبيت واقع جديد تحت المظلة الأميركية وبشكل كامل. وفي المقابل ما تزال إيران ترفض الإقرار بمبدأ إخراجها من لبنان، وهو ما يتجسد بشكل أساسي بالقدرة العسكرية لحزب الله وتركيبته القتالية.وقد سهرت إيران لبنائه لفترة طويلة إمتدت لعقود ثلاث، وهو ما كلفها الكثير من الإنفاق المالي، وأثمان سياسية وعسكرية باهظة.
وعلى الرغم من النتائج التي أفضت إليها الحرب الأخيرة، إلا أن إسرائيل تتهم إيران بالعمل على كسب الوقت لإعادة بناء قدرات حزب الله العسكرية، ومن خلال التعاطي بمرونة فائقة مع المتغيرات الجديدة، وهنا بيت القصيد. ما يعني أن واشنطن ومعها الحكومة الإسرائيلية تريدان إقفال ملف “سلاح حزب الله” مرة واحدة وأخيرة ما يؤدي الى قطع “حبل الصرة” بين حزب الله وإيران، وهو ما يمكن وصفه بفلسفة الورقة التي حملها براك. أما عنوان الزيارة الثانية للموفد الرئاسي الأميركي فهو إما التفاهم على المطلوب من خلال بنود الورقة أو من خلال عودة الحرب عبر سلاح الجو الإسرائيلي. ومن هنا الكلام عن أن الهامش يضيق أمام لبنان.
لكن حزب الله طرح بعض الهواجس المحقة والمتعلقة باستهدافات قد تتعرض لها بيئته كما حصل مع بيئات مختلفة في سوريا، وكما يلوح تنظيم داعش ومجموعات تكفيرية وإرهابية أخرى. لكن الجواب الأميركي كان بأن مواجهة هذه المخاطر يكون من خلال الدولة اللبنانية أسوة بباقي مكونات المجتمع اللبناني، كما أنه ليس المطلوب أبدا نزع السلاح الخفيف والمتوسط بل فقط السلاح الثقيل مثل الصواريخ البالستية والدقيقة والتي طابعها إقليمي بحت، والتي لا علاقة لها بمبدأ الحماية الذاتية.
ووفق جس النبض الحاصل حتى الآن فإن المرونة تبقى محصورة في الإطار الشكلي، أما في المضمون فأغلب الظن أن حزب الله ومن خلفه إيران سيبقى متمسكا بقراره بعدم تسليم السلاح حتى الذي يصنف كسلاح ثقيل، والمقصود هنا الصواريخ على أنواعها. أضف الى ذلك ما يستشف من الشق المتعلف بالإصلاحات المالية، والتي تعني في جوهرها قطع التمويل المالي للحزب، من خلال الأساليب الملتوية التي تستمر بربط إيران بحزب الله.
ووفف هذه الحسابات تصبح الصورة ملبدة وسوداوية، خصوصا وأن القرار الأميركي ومن خلفه الإسرائيلي لا رجوع عنه. ذلك أن الحسابات في هذا الإطار تجعل من الظرف الحالي وبعد المتغيرات التي حصلت فرصة “ذهبية” لمتابعة مشروع الإنقضاض على التركيبة العسكرية لحزب الله، وعدم منحه فرصة إلتقاط الأنفاس من خلال تقطيع الوقت لإعادة تنظيم أوضاعه وترميم بنيته التي تضررت. ومعه فإن زيارة نتنياهو الى واشنطن قد تشكل دفعا لاستعادة لغة الحرب، وهو ما يفيد رئيس الحكومة الإسرائيلية داخليا. فالمجتمع الإسرائيلي ما يزال يميل بمعظمه للحلول الحربية. تكفي الإشارة الى ارتفاع شعبية نتنياهو وحزب الليكود بعد الحرب على إيران.
وكذلك فإن ترامب الذي يعاني من أزمات داخلية وخيبات أمل خارجية، يميل لتنفيس مشاكله عبر كسب نقاط في الشرق الأوسط، لاسيما وأن كسبه هذا لن يؤدي لخسائر أرواح من جنوده، وهو ما يشكل نقطة ضعف له. وقد لا ينحصر مشروع ضربه لنفوذ إيران الإقليمي عبر الساحة اللبنانية فقط. فلا شك أن العراق يشكل نقطة ضعف حساسة لإيران، كونه يلعب دور الرئة التي يتنفس منها الإقتصاد الإيراني المأزوم، وسط تحديات إقليمية تلعب فيها تركيا دورا جديدا صاعدا على حساب الدور الإيراني. وحتى في العراق يسعى أردوغان لأن يكون منافسا شرسا لإيران، وبالتفاهم مع ترامب الذي يعمل على تكثيف ضغوطه على بغداد لفك إرتباطها السياسي والأمني والإقتصادي وخصوصا في مجال الطاقة.
فالحشد الشعبي أو الذراع العسكرية لإيران في العراق بدأ يعاني من ضائقة مالية بعد تأخر دفع رواتب حوالي 200 ألف من عناصره ولأكثر من أسبوعين، وهو ما يحصل للمرة الأولى منذ تأسيسه عام 2016، إضافة الى الموازنة التشغيلية للحشد.
أما في سوريا فإن قسد وبالتنسيق مع القوات الأميركية في صدد التحضير لحملة واسعة تطال البادية السورية، حيث تتمركز مجموعات تكفيرية وإرهابية، يتردد أن طهران تعمل على إيجاد موطىء قدم لها وسط الفوضى الموجودة، لإستغلال الثغرات والإنتقال لاحقا الى العمق السوري.
أما إيران فهي تعمل على استخلاص دروس الحرب التي خاضتها. وهي وجدت أن إسرائيل إمتازت بنقطتي قوة: الأولى هي القوة الجوية المتفوقة، والثانية كانت من خلال الخرق الإستخباري والأمني الواسع. أما نقطة قوة إيران فكانت عبر قدراتها الصاروخية الهجومية، ما يدفعها للسعي لتطوير جيل جديد من الصواريخ البالستية. أما الضعف الأمني الذي أصابها فهي تعمل على إبتكار حلول جدية داخلية وإقليمية، بعدما ظهر أن أغلبية الإختراقات كانت عبر إيرانيين معارضين مثل مجاهدي خلق، وأيضا عناصر أفغانية وهندية. وقد تولت هذه الشبكات تهريب الصواريخ والأسلحة والمسيرات والمعدات العسكرية الى داخل إيران.
في إسرائيل كلام كثير يتردد في الإعلام وعبر متخصصين بأن جولة حرب جديدة مع إيران لن تتأخر. وكان لافتا أن يكتب راز تسيمت وهو رئيس قسم دراسات إيران في معهد أبحاث الأمن القومي بجامعة تل أبيب بأن الأسابيع المقبلة ستثبت ما إذا كان بالإمكان تكريس التغيرات التي حصلت من خلال تسوية سياسية أم أن إسرائيل ستكون مضطرة للذهاب الى الحرب من جديد. وختم قائلا أن الحلةالذي يمكن إعتباره طويل الأمد لا يمكن أن يحصل إلا عبر تغيير النظام الديني القائم في إيران.
ووفق ما تقدم يمكن الإستنتاج بأن ظروف التسوية لا تبدو حقيقية، وأن ما هو حاصل حاليا مجرد هدنة لتعزيز أوراق القوة تمهيدا لجولة جديدة قد لا تتأخر كثيرا، ولبنان ليس بمنأى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى