
ما تزال الإطلالة الأخيرة لأمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم مدار بحث ونقاش للوقوف على خلفياتها الحقيقية خصوصا لجهة التمسك ببقاء السلاح بيد الحزب وسط الجدل القائم حول هذا الملف والذي تصاعد بقوة إثر الزيارة الأخيرة لنائب المبعوث الأميركي الى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس الى بيروت، وكلامها الذي وصفت فيه حزب الله بالسرطان الذي يجب إستئصاله.
في الواقع ثمة تفسيرين لخلفية كلام قاسم. التفسير الأول يضع كلامه في سياق شد العصب واستنهاض المعنويات. ذلك أن الأسابيع الماضية حفلت بدعوات واسعة، داخلية وخارجية، تطالب بنزع سلاح حزب الله في مقابل التزام قيادات حزب الله الصمت المطبق. ووسط الظروف المالية الصعبة التي تمر بها البيئة الحاضنة لحزب الله، واستمرار الإغتيالات الإسرائيلية اليومية ورفض إسرائيل استكمال انسحابها العسكري من جنوب لبنان، بدا أن طرح هذا الملف على بساط البحث الإعلامي بعد أن كان يعتبر من المحرمات، إنما يؤدي الى مزيد من إضعاف معنويات هذه الفئة، خصوصا وأن كل ذلك يحصل في ظل المفاوضات الأميركية_الإيرانية. وبالتالي فإنه كان لا بد من صدور موقف من أعلى مواقع حزب الله بهدف إعادة شد العصب. مع الإشارة الى أن الجيش اللبناني بات على قاب قوسين من الإنتهاء من الإمساك بكافة مواقع ومخازن حزب الله جنوب الليطاني. صحيح أن هذه الخطوات تحصل بعيدا عن الإعلام، لكن في أيامنا هذه لم يعد من الممكن إبقاء خطوات ميدانية كهذه بعيدة عن التداول.
أما التفسير الثاني، والذي قد يكون التفسير الأهم، فهو يتحدث عن رسالة إيرانية عبر صندوق البريد اللبناني الى المفاوض الأميركي الذي كان يستعد لجولة تفاوضية ثانية في روما، أو ربما لكواليس مفاوضات جانبية تحصل بعيدا عن الإعلام. ويستند أصحاب هذا التفسير الى جملة إشارات تعزز رأيهم. فلقد صدرت أربع مواقف شبه متزامنة تحمل المضمون نفسه على لسان أربع مسؤولين كبار في حزب الله وفي طليعتهم الأمين العام. وعلى الرغم من التمايز الذي بات معروفا داخل تركيبة الحزب إلا أن صدور هذه المواقف المتلاحقة والمتشابهة في مضمونها أوحت بوجود طلب في هذا الشأن. وجاءت تغريدة السفير الإيراني بعد كلام قاسم لتعزز هذا التفسير، خصوصا وانها أتبعت بتعليق ساخر من أورتاغوس يؤشر الى السأم أو الضجر مما يطرح.
ووفف أسلوب تبادل رسائل الضغط التفاوضية بين واشنطن وطهران جاءت رسالة النيويورك تايمز والتي كشفت عن تحضير إسرائيل لضربة عسكرية على إيران الشهر المقبل.
ووفف ما تقدم فثمة من يعتقد أن إيران أرادت توجيه رسالتها الى واشنطن عبر الساحة اللبنانية ليأتي الرد الأميركي “تثاؤب”. ولهذا الأمر دلالاته في حال صحت التكهنات حول وجود قنوات تفاوضية أخرى بعيدة الإعلام وتتولى مناقشة جوانب أخرى غير الملف النووي.
وعلى الرغم من الأجواء التفاؤلية ولو الممزوجة بكثير من الحذر، إلا أن الإنطباعات السائدة في الضاحية الجنوبية تبدو متشائمة حيال مصير المفاوضات الدائرة بين واشنطن وطهران، وعلى أساس أن إيران المحشورة بسبب الظروف التي باتت معروفة، تعمل على شراء الوقت بانتظار مفاجآت سلبية قد تنفجر بوجه ترامب ما سيدفعه للإنكفاء، وهو ما سيسمح لها عندها باستعادة زمام المبادرة الإقليمية. ولا حاجة للإشارة الى وجود العديد من “خبراء” الحرس الثوري في كل قسم من أقسام حزب الله. وواشنطن التي تعرف ذلك جيدا تشير من جانبها الى “تميز” هؤلاء بأنهم من المتقدمين بالعمر وليس من عمر الشباب، وهو ما له تفسيره “الإيجابي” بالنسلة لها. كما أن واشنطن تدرك أيضا بأن نقطة الوجع الأولى لدى حزب الله هو الموضوع المالي. وليس المقصود هنا المصاريف الإدارية واليومية والرواتب، لكن ما يطال مسألة تطوير الماكينة العسكرية بعد الحرب، وإعادة الإعمار التي تضغط على البيئة الحاضنة.
وفي المقابل لا يبدو الرئيس الأميركي دونالد ترامب في وضع يسمح له باستهلاك الوقت. فهو بدوره يمر في ظروف داخلية ضاغطة نتيجة العديد من قراراته التي بدت أقرب الى الإرتجال والتهور، وارتدت سلبا عليه خصوصا على المستوى الداخلي. فبعد إنقضاء مهلة المئة يوم في الحكم والتي تشكل عادة فترة سماح ودعم للرئيس، يبدو ترامب وكأن المرحلة الوردية انتهت قبل ذلك، وهو عاد ليغرق وسط مشاكل لا حلول لها. وعاصفته التي هدرت على المستوى الدولي بعد انتخابه وقبل دخوله المكتب البيضاوي إنقلبت هلعا على انقلبت هلعا على مستوى النظام المالي الدولي، وحيث هز ترامب النظام الجيوسياسي الدولي من جذوره. ويبقى الوصف الأفضل لرئيس المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية مارك ليونارد حين اعتبر أن إدارة ترامب قضت على كل المسلمات القائمة، فلم تعد هنالك فوارق واضحة بين الحرب والسلم، والحلفاء والأعداء، واليسار واليمين، والمصالح الوطنية والخاصة.
ومن هذه الزاوية يجب مقاربة إندفاعة ترامب باتجاه إيران. فمن الخطأ قراءة مفاوضاته تحت العنوان النووي البحت. الرؤيا الأصح بأنه يريد اتفاقا مع إيران كواجهة لبناء خارطة تحالفات سياسية جديدة في المنطقة، ومدماكا متينا في بناء توازنات دولية جديدة.
ولذلك تهمس أوساط ديبلوماسية بأن المفاوضات الحقيقية مع طهران قد تكون تحصل في الخفاء في كواليس جانبية، وهي الصيغة التي لطالما فضلتها طهران. ألم تحصل في السابق مفاوضات النووي بسرية مطلقة في سلطنة عمان قبل الكشف عن الإتفاق؟ فالأسلوب الإيراني يفضل القنوات الخلفية لا اللقاءات تحت الأضواء، مرة لإبعاد إسرائيل عن تفاصيلها، ومرة أخرى لإبقاء “وقار” الهيبة للشكل لنظام ما فتىء ينادي بالموت لأميركا على مدى عقود أربع، ويقاتل الأنظمة القائمة في المنطقة بسبب علاقتها بالأميركيين.
ولذلك يعتقد البعض بوجود صفقة كبيرة تعمل لها إدارة ترامب على مستوى المنطقة إنطلاقا من الحل النووي المطروح. طبعا هنالك جانب إقتصادي استثماري أساسي ومهم يطال إستئثار واشنطن بالإستثمارات داخل إيران، وهنالك أيضا جانبا آخر له علاقة بإعادة ترتيب المنطقة بعد الحروب التي حلت بها. ولا شك أن فريق ترامب يدرك جيدا بأن الضربة القاصية التي تلقتها استراتيجية إيران الإقليمية والتي ارتكزت على تصدير الثورة ومحور المقاومة ستأخذ إيران الى صياغة استراتيجية أخرى إنطلاقا من الوقائع الجديدة. صحيح أن في إيران نظام ديني عقائدي، إلا أنه أثبت بأنه فارسي وبراغماتي في الوقت عينه. ألم يجري اختبار ذلك كفاية خصوصا إبان الحرب التي حصلت مع عراق صدام حسين؟.
وجاءت زيارة وزير الدفاع السعودي الى طهران المعبرة جدا لتؤشر الى وجود تفاهمات عميقة يجري صياغتها بهدوء وبعيدا عن الإعلام. فالزيارة لم تحصل بسبب وجود مناسبة موجبة. والمصالح السعودية والإيرانية ما تزال متضاربة في اليمن ولبنان وسوريا. وهو ما يعزز الإعتقاد بوجود دافع ما غير منظور أدى الى حصول هذه الزيارة.
وفي الكواليس الديبلوماسية همس حول أن إدارة ترامب على وشك الإنتهاء من وضع اتفاقية للتعاون النووي للأغراض السلمية مع السعودية. وهو ما يعني السماح للسعودية ببرنامج نووي مدني على غرار البرنامج الإيراني وتحت إشراف أميركي. وكذلك تستعد إدارة ترامب لتزويد السعودية بأسلحة متطورة تشكل حاجز ردع فعلي بوجه إيران. على أن تصب زيارة ترامب الى السعودية كأول وجهة خارجية له، في هذا السياق الجاري رسمه. وهو ما يعني ربط واشنطن بالبنية التحتية السعودية للطاقة والأمن على المدى البعيد. وعلى أن يترافق ذلك مع إنجاز التطبيع السعودي_الإسرائيلي وذلك بعد إقفال الملف الفلسطيني. ويحكى عن خطوات موجودة في هذا الإطار بعيدا عن الإعلام. وكل ذلك يشي بخارطة توازنات جديدة في المنطقة تستند الى مصالح هائلة تحت المظلة الأميركية. ومن هنا يمكن تفسير الضغط الهائل الذي تمارسه إدارة ترامب لتمرير هذا المشروع الضخم ما سيشكل انتصارا هائلا لها، يسمح لها باستثماره داخليا والتعويض عن العراقيل التي باتت تعترض مسار البيت الأبيض.
ومن هنا أيضا يمكن فهم استمرار الغارات الأميركية المؤذية على القدرات العسكرية للحوثيين من دون رد فعل مقابل. وفي الوقت نفسه إذا كانت واشنطن تريد من ضرباتها القوية على الحوثيين التلويح بالقوة لإنجاح مفاوضاتها مع طهران إلا أنه بات معروفا بأن واشنطن لن تذهب باتجاه خيار الحرب ضد إيران إلا في التصاريح والمواقف الإعلامية. فالتحضر للحرب يستوجب اتخاذ خطوات عدة أخرى غير الحشد العسكري، كمثل تنظيم الواقع الدفاعي للقوات والقواعد الأميركية في المنطقة وسحب الفائض من الجنود وإنجاز ترتيبات دفاعية، وهو ما لم تحصل أي خطوة من ذلك. ما يعني أن الميزان يميل الى الحل التفاوضي وليس بالقوة، رغم التصاريح والمواقف المتشددة في بعض الأحيان لأهداف آنية ومحددة.
وبالتالي وعلى ضوء ما تقدم فإن “تثاؤب” أورتاغوس يصبح مفهوما أكثر. وكذلك تمسك السعودية بعلاقتها الجديدة مع لبنان والمعادلة الجديدة التي قامت عليها السلطة. وفي الكواليس الديبلوماسية أن السعودية كانت أبدت تمسكها بعلاقتها مع لبنان وسوريا. ذلك أن السنوات الماضية أظهرت للمملكة ترابط أمنها بالإستقرار على الساحتين اللبنانية والسورية. ولكن ثمة ضمانات مطلوبة ستواكب ترسيخ هذا المشهد، وهو ما يتطلب الى جانب الحزم على مستوى السلطة اللبنانية بعض المرونة عبر حوار جاد وجدي تؤمنه الظروف الإقليمية من دون شك.