
مروعة كانت صور المجازر التي حصلت في مناطق الساحل السوري. وأيا كانت الأعذار فما من شيء قادر على تبرير سفك الدماء بالشكل الذي حصل، خصوصا وأنه طاول عزل ومدنيون ووفق الإنتماء الطائفي. هو تطهير عرقي حصل وسط اجواء “احتفالية” وتباهي وزهو وفق ما أظهرته المشاهد التي صورها الجناة أنفسهم.
وكان جليا أن رد الإدارة السورية الجديدة على الإنتفاضة التي حصلت ضدها في مناطق الساحل السوري إنما حصل وفق أسلوب “القاعدة” أو “النصرة” لا وفق أسلوب السلطات الرسمية التي تتولى شؤون البلد عادة، وما عزز هذا الإعتقاد مشاركة العديد من العناصر الأجنبية والتي تربطها بالمجموعات السورية الإيديولوجيا التكفيرية والعنفية. وجاء الصمت الرسمي والذي ساد لساعات طويلة بمثابة غض النظر قبل أن تعلن مساء يوم الجمعة عن حدوث ما اعتبرته تجاوزات. إلا أن البعض قرأ في خلفيات ما أرادته السلطة السورية توجيه إشارات ثلاث:
الإشارة الأولى بأن الإدارة السورية الجديدة لا تحتمل أي نوع من أنواع الشغب عليها. فهي ما تزال طرية العود ما يدفعها للتعامل باسلوب عنيف لحماية استمراريتها ومنع تجدد أعمال مشابهة، خصوصا وأن الطائفة العلوية تحتفظ بأوراق قوة كونها حكمت البلاد لأكثر من خمسين سنة، إضافة الى انتشارها في مواقع جغرافية حساسة.
الإشارة الثانية الى المجموعات السورية الأخرى والتي كانت باشرت خلال الأسابيع الماضية خطوات الإبتعاد عن سلطة دمشق. والمقصود هنا على وجه الخصوص الدروز والأكراد. وبالتالي فإن التحرك الدموي والعنيف وحصول المجازر قد يكون هدف لتوجيه رسالة رعب الى هذه المكونات لمنعها من التمادي في مشروع خروجها عن سلطة دمشق. ويمكن تفسير الحجم الضخم للقوات التي جرى رفدها الى المنطقة بمثابة رسالة قوة الى المناطق الأخرى كي لا تتسع دائرة الإحتجاجات. لكن الشواهد التاريخية تشير في العادة الى أن هذه المجموعات سيرتفع منسوب قلقها وخوفها، وستندفع أكثر في اتجاه التمسك بالحماية الخارجية وتعزيز قدراتها الدفاعية الذاتية.
أما الإشارة الثالثة فكانت باتجاه إيران التي طالتها الإتهامات بتدبير وترتيب ما حصل. فالتحرك العسكري الذي حصل بدا منظما والتحركات جاءت وفق خطة موضوعة طالت نقاطا محددة بدقة وعناية. واستبق التحرك الذي حصل عدة مواقف ممهدة. فمرشد الثورة علي خامنئي والذي لم يستطع حتى الآن تقبل خسارة سوريا بسبب أهميتها الفائقة في مشروع تكريس النفوذ الإيراني في المنطقة كان توقع سابقا أن يشهد المستقبل ظهور مجموعات “شريفة وقوية في سوريا”. وقبل أيام معدودة قال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بأن من يعتقدون حاليا بتحقيق انتصارات مؤكدة في سوريا لا ينبغي لهم أن يفرحوا قبل الأوان. أما مستشار المرشد علي أكبر ولايتي فتوقع قبل يومين فقط إحتمال اندلاع حرب أهلية في سوريا في أي لحظة. كما أن بعض المجموعات التابعة للحشد الشعبي في العراق لم تخف موقفها الداعم للتحركات المناهضة للإدارة السورية مثل تصريح قيس الخزعلي زعيم “عصائب أهل الحق”.
وثمة جانب آخر لا بد الإشارة إليه وهو الموقف التركي المنزعج من إيران. ويمكن في هذا الإطار إدراج كلام وزير الخارجية حاقان فيدان حين أبدى قبل يومين احتجاجه على النشاط الإيراني. وهو ما يدفع للإستنتاج بأن الإستخبارات التركية كانت تشعر بالترتيبات الجارية، ولو أنها كانت لا تملك بعض التفاصيل الميدانية.
وقد تكون القناعة بوجود بصمات إيرانية خلف ما حصل هي التي دفعت بالدول الخليجية لإعلان دعمها لسلطة الشرع، أو ما يعني ضمنا شجب ومعارضة أي نية إيرانية للعودة الى سوريا، وأيضا هو ما يفسر سكوت العالم عن هول المجازر، وغياب منظمات حقوق الإنسان، على اعتبار أن الأولوية هي لعدم كسر المعادلة التي قامت في سوريا بعيدا عن إيران.
صحيح أن “الإنتفاضة” التي حصلت فشلت فشلا ذريعا وأتت بنتائج كارثية، إلا أنه لا بد من توقع استمرار حرب العصابات في الجبال والتضاريس الجغرافية الصعبة الى ما شاء الله. وصحيح أن واقع كهذا لن يبدل في المعادلة القائمة لاسيما وأن الخسائر البشرية لا تشكل في هذه الحالة عاملا سلبيا ضاغطا، إلا أنه سيترك فجوات أمنية قائمة وقابلة لأن تتمدد في ظروف مختلفة مستقبلا. وفي الوقت نفسه بدأت أصوات تعلو داخل الطائفة العلوية وتطالب بإبعاد التأثير الإيراني عبر آل الأسد عن الطائفة بسبب المخاطر الوجودية التي باتت تطالها. ويأتي في هذا السياق كلام رامي مخلوف.
لكن السؤال الأهم يبقى حول اسباب توقيت العملية في هذا الظرف بالذات؟
من الواضح أن إدارة دونالد ترامب تتقدم باتجاه فرض اتفاق نهائي مع طهران التي خسرت العديد من أوراق قوتها الإقليمية وباتت في موقع أكثر ضعغا ما يضعها في موقف تفاوضي صعب. وبالتالي فإن إعادة إظهار بعض أوراق القوة يكون هو المطلوب الآن وبإلحاح. وخلال الأيام الماضية باشرت طهران بنفض الرموز المرنة عنها واستبدالها بخطابات متشددة. وهكذا ألزم محمد جواد ظريف على الإستقالة وهو الرمز الداعي للتفاوض مع الأميركيين، وأقيل معه وزير الإقتصاد في ضربة للرئيس الإيراني أيضا. وأرفق خامنئي ذلك برفضه التفاوض مع إدارة ترامب.
في المقابل شعر الرئيس الأميركي أن الظرف يلزمه بالتحرك الآن باتجاه “إنجاز المهمة” مع إيران. فمن جهة هنالك تفاهمات عريضة مع روسيا تمتد من أوروبا الى الشرق الأوسط، وموسكو قادرة على المساعدة الفعالة مع إيران، ومن جهة أخرى هنالك “حشرة” ترامب في معاركه الداخلية ولاسيما موضوع رفع التعريفات الجمركية مع كندا والمكسيك، والتي يبدو أنها تتأرجح وتتبدل وكأنها لم تحظ بالدرس الوافي. وبالتالي يصبح توقيت فتح ملف إيران مؤاتيا لا بل مطلوبا.
وفي كلامه لشبكة فوكس نيوز تحدث ترامب بشيء من التحذير: آمل أن تتفاوضوا لأن الأمر سيكون أفضل بكثير بالنسبة لإيران. لكن الكلام الأهم هو الذي قاله لاحقا أمام الصحفيين في البيت الأبيض وهو حمل تهديد مبطن عندما قال: لدينا أيام مثيرة قادمة، وسيحدث شيئا قريبا، ولقد دخلنا في المرحلة الأخيرة. وتابع ترامب قائلا: أفضل اتفاق السلام على الخيار الآخر، لكن الخيار الآخر سيحل المشكلة أيضا. وترامب يتحدث هنا عن خيارين جاهزين أمامه على الطاولة.
في إيران هنالك من يراهن على أن كلام الرئيس الأميركي إنما يدخل في إطار اللعبة الدعائية والإعلامية لا المشروع القابل للتنفيذ. وأن الموقف الروسي ومصلحته يصبحان في هذه الحالة عامل فرملة لأي خطوة مجنونة من ترامب. وكان لافتا جدا ما كتبه خامنئي عبر منصة إكس. فهو اعتبر أن التفاوض بالنسبة للدول المتغطرسة وسيلة لكرخ مطالب جديدة، وهذه المطالب لن تلببها إيران قطعا. وأورد خامنئي بعض عناوين هذه المطالب الجديدة عندما كتب قائلا: يطرحون مطالب جديدة تتعلق بالقدرات الدفاعية للبلاد وقدراتها الدولية: لا تفعلوا كذا، ولا تلتقوا فلانا، ولا تذهبوا الى المكان الفلاني، ولا تنتجوا كذا، وألا يتجاوز مدى صواريخكم الحد الفلاني. وختم خامنئي قائلا: وهل يمكن لأحد أن يقبل بهذه الشروط؟
ومن عبارات خامنئي يمكن الإستنتاج بأن المطالب الأميركية تتجاوز الملف النووي لتصل الى موضوع الصواريخ البالستية والفرط صوتية البعبدة المدى، وأيضا وقف النشاط الإيراني غربا، أي باتجاه البحر المتوسط وما بات يعرف ببلدان الهلال الشيعي.
وقريبا جدا ستتوقف واشنطن عن منح العراق الإستثناء من أن تطالها العقوبات لقيامها بشراء الطاقة من إيران. ومنذ أيام أمر ترامب بإدخال حاملة الطائرات “هاري ترومان” مع مجموعتها الى منطقة البحر الأحمر، والمعروف عنها بأنها واحدة من أضخم المجموعات البحرية الحربية الأميركية. ويعتقد بعض المراقبون بأنها المرة الأولى التي يذهب فيها ترامب الى هذا المستوى من التهديد ضد إيران وهو ما يفترض أخذه على محمل الجد.
وسط هذا التشابك المعقد جاءت “انتفاضة” العلويين في الساحل السوري والتي أدت لنتائج كارثية. وترافق ذلك مع رفع مستوى الغارات والإستهدافات الإسرائيلية ضد حزب الله في جنوب لبنان، مع تهديدات باحتمال استهداف الضاحية الجنوبية من جديد. ووفق التطورات الجديدة يصبح لبنان مطوقا بالنار مرة في الجنوب ومرات أخرى مع حدوده الشمالية الملاصقة للساحل السوري وحدوده الشرقية حيث التماس المباشر بين العمق الشيعي والقوات السورية التي أشتبكت معها مرات عدة.