استعاد البعض تحذيرات رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل للرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت مع اقتراب سقوط برلين في العام 1945. يومها ألح الثعلب البريطاني على العجوز الأميركي التنبه والتحوط من المشهد الذي يسعى ستالين لتثبيته في أوروبا وبالتالي في العالم. فسقوط هتلر بات حتميا، ما يستوجب الإلتفات ناحية الصراع الجديد القادم بين الدول الغربية والإتحاد السوفياتي.
وانطلاقا مما سبق ثمة أصوات خافتة بدأت تتصاعد داخل أروقة القرار الأميركي حول عدم التركيز فقط على انهيار “الأمبراطورية” الإيرانية في الشرق الأوسط، بل لضرورة التنبه للمشهد الجديد الآخذ في التكون والذي يمنح التطرف الإسلامي ملاذات آمنة وبوفرة، بدءا من أفغانستان ووصولا الى سوريا. وتطالب هذه الأصوات إدارة ترامب بضرورة نسج استراتيجية كاملة متكاملة في الشرق الأوسط وفق التبدلات الهائلة التي حصلت.
وقد لا يكون هذا السبب وراء تأخير استدارة ترامب باتجاه الشرق الأوسط وتاليا باتجاه إيران. ذلك أن الإدارة الأميركية الجديدة والتي بكرت في فتح ملفاتها الداخلية الصعبة والخطرة فضلت على مايبدو التنسيق الكامل والمسبق مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قبل تحركها المنتظر. وهذا ما يجعل الزيارة المبكرة التي يقوم بها نتنياهو الى البيت الأبيض مفصلية وأساسية للصراع المفتوح مع إيران في المنطقة. كما أن “الإحتضان” المالي الهائل الذي بادرت به السعودية للرئيس الأميركي يعني ضمنا السعي لتفاهمات واسعة تبدأ من ملف الحوثيين ولا تنتهي مع الملف النووي الإيراني، وما بينهما مما يعرف بساحات النفوذ الإيراني. فالسعودية والدول المتحالفة معها لم تكن راضية عن النتائج المتواضعة التي حققتها عملية “حامي الإزدهار”. فهي تتطلع الى تغييرات جذرية في اليمن تفتح الطريق أمام تثبيت مشاريع اقتصادية ضخمة بطابع استرايجي.
ويصل نتنياهو الى البيت الأبيض وهو مفعم بالأمل لصوغ خطة عمل أميركية_إسرائيلية كاملة متكاملة لإنجاز واقع جديد في المنطقة. فالإدارة الأميركية تعج بالمتحمسين لإسرائيل والمعادين في الوقت عينه لإيران والمحور الذي تتزعمه. القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية (سينتكوم) الجنرال فرانك ماكينزي قال في مقابلة صحفية له بأن إيران تمر حاليا بواحدة من أضعف فتراتها منذ عقود، ومحور المقاومة المقاومة أصبح ضعيفا بشكل كبير. فالحرب القائمة ضربت حركة حماس وأضعفت حزب الله، وجاء انهيار نظام الأسد ليوجه ضربة حاسمة لإيران.
كلام ماكنزي يدفع باتجاه إنهاء المطلوب مع إيران. ووفق قراءات بعض المطلعين داخل إدارة ترامب فإنه لا بد من تثبيت التبدلات الجديدة على الساحة الفلسطينية والمقصود هنا في غزة من دون الإضرار بعملية السلام، وأيضا تثبيت وترسيخ الواقع الجديد في لبنان من دون المس بالإستقرار الداخلي، والإنصراف الى معالجة التحديات المطلوبة في اليمن والعراق. وترى هذه الأوساط أن تراجع السلوك العدائي للحوثيين يؤشر الى الخشية الموجودة لديهم من المخاطر الآتية، كما تعكس حال الضعف التي أصيب بها “محور المقاومة”. وتضيف بأن وضع رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني اختلف حيث بات يعمل لتوثيق علاقته أكثر مع الدوائر الأميركية بعد أن كان في السابق يميل أكثر باتجاه طهران.
لكن الصورة ليست بهذه البساطة التي يعتقدها البعض. فإيران التي باتت أكثر قلقا حيال أمنها واسقرارها الداخلي باتت تسعى لاعتماد وسائل بديلة لحماية نظامها القائم، كمثل الذهاب لإنتاج السلاح النووي، وإنجاز تفاهمات مع قوى أخرى مثل روسيا وعلى أساس منح موسكو تعويضا حقيقيا لخسائرها التي لحقت بمصالحها الأمنية في سوريا.
والواضخ أن نتنياهو وبالتفاهم مع ترامب خصص رحلته الى واشنطن لعرض الخطة الإسرائيلية المقترحة، واستنادا الى النتائج العسكرية التي حققتها تل أبيب خلال أشهر الحرب الماضية. ما يعني أن عودة نتنياهو قد تؤشر الى بداية مرحلة تصعيدية جديدة مع إيران والنفوذ الذي ما تزال تتمتع به في المنطقة.
لكن ثمة حسابات جديدة لا بد من أخذها في الحسبان. فخبراء الشرق الأوسط في واشنطن يضعون في الحسبان بأن الضعف الإيراني والفراغات الناجمة عن تراجعها في الساحات خلق فرصا أمام مخاطر من نوع آخر مثل المجموعات الإسلامية المتطرفة، كما هو حاصل في سوريا اليوم. فبعد عودة طالبان الى أفغانستان هنالك خشية من انزلاق الوضع في دمشق الى حالة مشابهة. فالإدارة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع تسعى لمنع حصول ذلك. لكن الظروف تبدو ضاغطة وغير مضمونة وهو ما يدفع بالأوروبيين الى مواكبة الوضع عن كثب، والعمل على مساعدة الشرع في خطواته. وصحيح أن الشرع يبسط سلطته على مجموعته العسكرية، لكن ماذا عن المجموعات الأخرى المتعددة الإنتماءات والتي لديها مصادر تمويل مبهمة ومجهولة. أضف الى ذلك أنه كان للنصرة سابقا علاقات وثيقة مع تنظيم القاعدة وحيث كانت تعتبر أحد فروعه، وأيضا كان لها علاقة مع تنظيم داعش قبل أن تحصل خلافات بينهما. لكن المنطلق العقائدي متقارب جدا. وبالتالي تصح المخاوف حول مدى الخروقات التي يمكن أن تكون حاصلة داخل صفوف هيئة تحرير الشام. وهذا ما يدفع بمجموعة الحماية التابعة للشرع للتركيز على احتمال استهدافه أمنيا. وتحت هذا العنوان عمدت المخابرات المركزية الأميركية على إنشاء خطوط تواصل جانبية وغير معلنة مع الإدارة السورية الجديدة، وهو ما سمح بإحباط عملية لداعش على مقام شيعي قرب دمشق.
والمسألة هنا أبعد وأخطر من اختراقات أمنية. فالمساحات السورية الشاسعة لم يجر ضبطها وإخضاعها لسيطرة دمشق بالكامل. وهذا الموضوع سيحتاج لوقت طويل لتحقيقه، والمقصود هنا سنوات. وبالتالي هنالك خشية من احتمال إنشاء معسكرات تدريب سرية مرفقة بتجنيد كوادر جديدة تحت غطاء المناخ الديني الجديد، وإقامة مراكز تدريب في المناطق النائية مثل البادية السورية، والتي شكلت ملاذا لمجموعات داعشية في المراحل السابقة، كما أنها شكلت مناطق مثالية للقواعد الإيرانية.
وباب الخطر هنا لا يقف فقط عند مستوى الإستقرار السوري الداخلي الهش، بل أنه يتعداه باتجاه إمكانية تسرب المتطرفين باتجاه الأردن الذي يعيش توازنات داخلية دقيقة وحساسة، وباتجاه لبنان الذي لديه مناطق حساسة ملاصقة للحدود أكان في الشمال أو في البقاع.
من هنا يمكن تفسير القلق المصري من نمو مجموعات إسلامية مناهضة للحكم القائم في ظل المناخ الإخواني القائم في سوريا.
وعلى أنقاض الإرث الإيراني في سوريا بات واضحا تشكل محورين جديدين في المنطقة ولو تحت السقف الأميركي. المحور الأول والذي يعتبر نفسه الراعي الإقليمي للسلطة السورية الجديدة والمقصود هنا تركيا وقطر. وهو ما يفسر زيارة أمير قطر كأول زعيم عربي الى دمشق.
أما المحور الثاني فهو محور السعودية ومعها مصر وفرنسا والذي أرسى دعائمه في لبنان. وأطاحت الخطوة الخاطئة التي نفذها نجيب ميقاتي باتجاه دمشق من خلال أنقرة بحظوظ عودته لرئاسة الحكومة.
ولأن تنافس هذين المحورين ما يزال مضبوطا تحت السقف الأميركي، إختار الشرع وعلى الأرجح بمباركة المرجعيات الإقليمية التي ترعاه، التوجه في زيارته الخارجية الأولى باتجاه السعودية. ذلك أن الرياض كانت أوفدت وزير خارجيتها الى دمشق للدلالة على حرصها ألا تبقى بعيدة عن المشهد السوري وأن تخلي الساحة بالكامل لمنافسيها.
ومن هذه الزاوية الحساسة يمكن قراءة تمسكها بحضورها في لبنان. وهذه مسألة لا تبدو قابلة للنقاش. وجاءت زيارة وزير الخارجية المصري لتصب في الإطار عينه. وهو أبدى كامل الدعم والمودة وخرج بمواقف مصرية أوضح مما اعتادت عليه الديبلوماسية المصرية. مع الإشارة هنا الى أن وزيري خارجية مصر والسعودية كانا على علاقة وثيقة منذ أن كانا يمثلان بلديهما كسفيرين في ألمانيا.
بالتأكيد لن يعترف أحد علنا بالمحورين الجديدين الناشئين، لكن إيران المستميتة بالمحافظة على ما تبقى لها من موطىء قدم في ساحات نفوذها الإقليمية ستسعى لاكتساب أوراق مفيدة لها خصوصا في سوريا، علها تستطيع إبقاء “نربيج” الأوكسيجين موصولا بينها وبين حزب الله في لبنان بانتظار ظروف أفضل.
وفي المقابل هنالك من يسعى لتوجيه الضربة القاضية لنفوذ حزب الله داخل السلطة من خلال إقصائه الكامل عن الحكومة. وهي المشكلة الفعلية التي تقف حائلا أمام ولادتها. لكن هنالك رأي آخر داخل المجموعة نفسها والذي يرى في هذا السلوك تهورا غير حكيم. إذ أن الواقعية تفرض التعامل بحكمة وتأن ولا داعي لهذا التوتر طالما أن المعادلة الإقليمية تبدلت برمتها. وهو ما يعني أن الظروف تتطلب سياسة إستيعابية أكثر منه هجومية وصدامية.