
كتب رئيس مجلس قضاء زحلة الثقافي مارون مخول :
في الذكرى العاشرة لرحيل سعيد عقل، ذلك الماردُ الخارجُ من قمقمِ الشعرِ السحريُِ مثل حكاياتِ الأعاجيبِ إلى اتِّسَاعِ فضاءاتِ الإبداع، تبتسمُ زحلة جارةُ الوادي، التي تغنّتْ بكلماتِهِ وغنّى لها شعراً قصائدَ خرجت من رحمِ النورِ إلى اللهيبِ المشعشعِ من الشمس.
سعيد عقل لا يُعرَّفُ عنه بكلماتٍ أو مقالاتٍ أو قصائدَ مديح، فهو مزيجٌ من أنفاسٍ الدوالي وأنغامِ القَصَبِ المبحوحِ في ذَهَبِ السنابلِ الباسقةِ وتَسبيلِ أجفانِ الغروبِ في مَوكَبِ التخليد .
إنَّ إبداعَ سعيد عقل، يريقُ سُدفاً من الذكرياتِ والمحطّاتِ التي خامرت وجدانَه، فتنوُعت قصائدُه بين الوطنيّةِ والعاطفيّةِ والفلسفيّة، ومناجاةِ الغيبِ المتواري عن جرحِ الشعراء فقد كتبَ الحقَّ وأبدع، وهجا الصارخَ من الشرُِ فروّع، وهدَّ الصخرَ الساحقَ لحريّةِ لبنانَ فتصدّع، وأسُسَ مجلسَ قضاء زحلةالثقافي كي يخلِّدَ الإبداعَ وينشرَه ويقتفي خطاه أينما حلَّ وارتحل.
من مثاليّاتِ الفيلسوف ديكارت أنّه كان يدّعي قدرتَه على حثِّ الحياة نحو تأجيل الموت، وكذلك آمنَ سعيد عقل بأنَّ الشعرَ واعزٌ لثنيِ الموتِ عن انتزاعِ أنفاسِ الحياة، فقد آمنَ بالثقافةِ كملاذٍ آمنٍ للنفوسِ الضالّة وأنشأ مقارنةً بين الأرواحِ كصيرورة ، والميتافيزيقيا المتواريةِ وراءَ حُجُبِ الطبيعةِ والحياة، وقد ألقى محاضراتٍ لاهوتيّةٍ ، مستشرقاً بأفكارِه على عظَمةِ التسامحِ في الخلقِ والدين والمحبّة والسلام الذاتي والجماعي.
توغّلَ سعيد عقل في التراثِ والحضاراتِ العالميّة، فقرأ وناقشَ وكتبَ في الفلسفةِ والسردِ والنثرِ والشعرِ والرمز، والمقارباتِ بين الأديان، وفاضَ في التأنّقِ اللغوي والجاذبيّةِ المجازيُة والعمقِ التأمّلي.
. لم يكتب سعيد عقل للبنان فقط، بل كتب لمكّة والقدس والمحبّة والوئام بين الأديان وغنّت له فيروز أجمل أغانيها
هذه المؤشّرات الفنيّة والمحسّناتُ البديعيّةُ تتألّقُ في انسيابٍ باهرفي تعابيره شاملةً للوجود الانساني. لا شكَّ بأنَّ سعيد عقل كان نجماً ساطعاً وما زالَ في سماءِ الشعرِ والأدب بمنحوتاتٍ فكريّةٍ خارقة، عشقَ سعيد عقل الليلَ واعتبرَه مأوى للطيورِ الشاردةِ في الحبِّ الأعمى .
كان سعيد عقل متمرّداً على التقليدِ داعياً للتجديدِ بقدرةٍ استثنائيّةٍ على تطويعِ اللغةِ العربيّة بحروفِها وأشكالِها ومراياها فكتبَ ونحتَ ورسمَ حروفَ الشهقاتِ الوجدانيُةِ في صميمِ الأدبِ العربيّ وعمقِ ملامحِه، واذا كان الشعرُ سمفونيّةَ ما قبل الميلادِ للأمم بأسرِها، فقد تنبّأ يأسماء هؤلاء الشعراء الكبار الذين حملوا كالأنبياء والرسل رسالة الأدب وبثّوا دعوتَهم في أقطار المعمورة.
لقد أعطى الشاعر سعيد عقل لزحلةَ خاصّة وللبنانَ والبلدان العربيّة زخمَ الشعر وروحَ المعنى المتجانس، وما زالت جارةُ الوادي تحتفي بإطلالتّه الروحيّة في كلّ المنابر والمحاور الفكريّة، وسيظلّ ريحاناً شامخاً في حديقة الشعر العربيّ الأصيل الذي لا ينضب شذاه ولا تهدمه الفصول بل يزداد صلابةً وبهاءً مع مرور الزمن.