
تتابع الأوساط السياسية في لبنان بكثير من الدقة تطورات الأوضاع في غزة، واحتمالات نجاح خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوقف الحرب. ويعود هذا الإهتمام لأسباب عدة، منها الترابط التاريخي القائم بين الواقعين اللبناني والفلسطيني، والذي تطور الى مستويات أعلى مع إعلان حزب الله “حرب الإسناد” بعد تنفيذ عملية “طوفان الأقصى” من قبل حركة حماس. لكن هنالك سبب إضافي يفوق أهمية الأسباب الأخرى، ويتعلق باحتمال قيام بنيامين نتنياهو بشن حرب جديدة على لبنان، حال الإنتهاء من حرب غزة.
فما إن كشف ترامب عن خطته ببنودها ال21 حتى انهالت المواقف المؤيدة والداعمة لها، لاسيما من الدول التي تعتبرها حماس صديقة، مثل قطر وتركيا. وفي موقف متوقع جاءت إشارة الإعتراض الإيرانية من خلال موقف الجهاد الإسلامي. ولا حاجة للإشارة الى أن بنود الإتفاق تبدو أقرب الى صيغة الإستسلام منه الى صيغة الحل المتوازن ولو بالحد الأدنى. أضف الى ذلك تلك الثغرات الواسعة الموجودة في الخطة والتي توحي بجوانب تطبيقية مبهمة وغير خاضعة لتفاهم مسبق. وهو ما يعني أنها ستكون لصالح الطرف الأقوى. ورغم ذلك لا تملك حركة حماس ترف رفض الخطة، ذلك أنها تبدو محشورة في الزاوية، وموقفها في غاية الصعوبة. فهي تعرف أن إعلان رفضها للخطة بات خيارا مكلفا، كما أن القبول بها سيضعها في موقف المستسلم، وسيضعف صورتها أمام شارعها وقواعدها. فطوال الأشهر الماضية إنقلب الرأي العام الدولي ضد إسرائيل وحربها الوحشية على المدنيين والأطفال، وهو ما جعل حماس تمسك بورقة ثمينة وتراهن على العزلة الدولية التي كانت تزداد حول إسرائيل. وهذا الواقع الذي عاشه الكيان الإسرائيلي للمرة الأولى منذ نشوئه جعل قيادة حماس تراهن عليه لإرغام نتنياهو على وقف مجازره ومشاريع تهجير سكان غزة الى خارج أرضهم. لكن مبادرة ترامب شطبت هذه الفرضية. ففي حال رفضت حماس مبادرة ترامب فإن إسرائيل لم تعد مجبرة على وقف حربها. وهنا تكمن معضلة حركة حماس. وحتى المراوغة عبر اعتماد مخرج “نعم، ولكن …” للتملص من خطة ترامب، لم يعد ممكنا. فالجواب بات إما نعم أو لا، ومن دون إضافات. وتركيا التي عاد رئيسها من اجتماع ناجح مع نظيره الأميركي، دخلت على الخط بقوة لإقناع حماس بالقبول بخطة ترامب. فمن الواضح أن ثمة تفاهمات واسعة حصلت بين ترامب وأردوغان طالت دورا تركيا أوسع في المنطقة إنطلاقا من سوريا، وهو ما يجعل أنقرة تدفع باتجاه تأمين موافقة حماس لتأكيد دورها المحوري ومرجعيتها الإقليمية.
وحتى كتابة هذه السطور بقي الصمت مخيما على قرار قيادة حركة حماس. فمن الواضح أن الخيار هو بين المر والأمر. ولو أن القوى الضاغطة على حماس تسعى لإقناعها بأن إعلان موافقتها سيؤدي الى نقل المشكلة الى داخل الحكومة الإسرائيلية، وبالتالي احتمال تفجيرها على يد اليمين المتطرف. لكن نتنياهو كان قد انتزع قيود اليمين المتطرف من يد حكومته عندما عزز صفوفها بوزراء من حزب “اليمين الرسمي” بزعامة جدعون ساعر. وهكذا أصبحت الحكومة تتكىء على أغلبية نيابية من 67 نائبا بدلا من 64، وهو ما يجعلها محمية من السقوط في حال انسحاب وزيري اليمين المتشدد.
واستطرادا، فإن الذهاب الى وقف الحرب في غزة، فهذا سيعني تفرغ نتنياهو لحزب الله وإيران، وهو ما يعيد رفع احتمالات الحرب على لبنان وفق العديد من المعطيات. وأول هذه المعطيات أن نتنياهو أبقى عمدا نار الحرب مشتعلة في لبنان، ولو أنه أبقاها نارا خفيفة في معظم الأحيان. لكن الأهم بالنسبة له كان بإبقاء النار مشتعلة، وهو ما يعني أنه يراهن على جعلها نارا قوية في مرحلة ما.
وثاني هذه المعطيات أن القوات الإسرائيلية المتواجدة عند الحدود مع لبنان، وعلى الرغم من وقف العمليات الحربية الواسعة منذ فترة بعيدة، إلا أنها ما تزال في وضع الجهوزية والإستعداد، ولم تخفض مستوى جهوزيتها لتتحول الى الوضع العادي. ولهذا الأمر دلالاته.
وثالثها، أن القيادة العسكرية الإسرائيلية والتي ستجد في قرار وقف الحرب في غزة فرصة لتحرير أعدادا كبيرة من القوات الهجومية ما يسمح بنقلها الى الجبهة اللبنانية، هذه القيادة تبدو مؤيدة بقوة لاستكمال الحرب على لبنان بهدف “تحقيق الأهداف المرسومة”. وفي العادة كانت القيادة العسكرية الأسرائيلية أقل حماسة من القيادة السياسية للحرب مع لبنان. أما اليوم فالوضع بات مختلفا.
أما رابع هذه المعطيات فيتعلق بالواقع ااسياسي الإسرائيلي الداخلي، وحيث يصبح نتنياهو ملزما أكثر بفتح جبهة جديدة تحظى بتأيد داخلي، وهو ما سيجنبه فتح ملفات عملية “طوفان الأقصى”. وجاءت تهديدات نتنياهو الواضحة باتجاه حزب الله لتؤكد على المشروع الذي يريد نتنياهو استكماله، خصوصا مع وجود رفض اسرائيلي للبقاء تحت “رحمة” ولو صاروخ واحد بالستي أو دقيق في لبنان.
وخامس وآخر هذه المؤشرات ما تنقله أوساط أميركية عن وجود تخوف إسرائيلي من إمكانية إعادة إطلاق صواريخ “مجهولة” عبر الحدود مع لبنان. ووفق قراءة هؤلاء فإن إيران المحشورة إقليميا والتي تراقب سقوط “مخالبها” الإقليمية، ستجد من الصعب عليها تقبل خروجها الكامل من الساحة الفلسطينية في حال تمت الموافقة على مبادرة ترامب. فنزع سلاح حركة حماس بموافقة ذاتية منها سينسحب تلقائيا على سلاحها في مخيمات لبنان، خصوصا بعد أن سلمت منظمة التحرير الفلسطينية سلاحها تطبيقا لقرار السلطة الفلسطينية. وهو ما سيجعل هامش حزب الله شبه معدوم، ويرفع من مستوى الضغوط عليه. ولذلك من الممكن أن تعود تلك الصواريخ “المجهولة” ولو أنها ستحمل هذه المرة مطالب كمثل اتمام الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، والأهم إطلاق الأسرى اللبنانيين.
وفي معرض تعزيز وجهة نظرها، تنقل الأوساط الأميركية عن تل أبيب بأن إيران عاودت رفع سقف حركتها في لبنان ولو بالتدرج، ما يوحي بأنها مستمرة في سياسة رفع السقف واستعادة حضورها. وعلى الرغم من الجدل اللبناني الداخلي الصاخب الذي واكب حادثة “الروشة”، إلا أن الأوساط الديبلوماسية الدولية لم تعره إهتماما خاصا إلا من زاوية واحدة، وهي الرسالة التي أرادتها إيران من خلال ما حصل بأنها ما تزال في بيروت ولم تخرج منها. ولكن الإهتمام الغربي تركز أكثر على معاني الزيارة الثانية لأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني، والتي لم يفصلها الكثير من الوقت عن الزيارة السابقة، رغم صعوبة السفر ومشقاته. وجاءت الكلمة المكتوبة والتي تلاها أمين عام عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم مفعمة بالرسائل وأبرزها على الإطلاق: لقد تعافينا ولن نسلم السلاح. وبالتالي فإن قراءة هذا المشهد تقود للإستنتاج بأن إيران لن تتأخر عن إعادة إرسال رسائلها الصاروخية عبر الحدود اللبنانية. وهو ما يعني بالنسبة لهؤلاء وجوب الإستعداد للمبادرة عسكريا.
لكن السؤال الأبرز يبقى حول القرار الأميركي. فهو يمسك فعليا بدفة القيادة ووجهة الأحداث. المطلعون على مناخ العاصمة الأميركية يعترفون بوجود وحهتي نظر حيال الوضع في لبنان. وجهة النظر الأولى وتتألف بشكل أساسي من ديبلوماسيين في وزارة الخارجية ومفادها بأنه لا توجد ضرورة ملحة للإندفاع في مغامرة عسكرية لا أحد يستطيع ضمان نتائجها، في وقت ما تزال فيه السلطة التي نشأت طرية العود والجيش يعاني من نقص في العديد والعتاد والتجهيز. وأنه طالما أن الوضع في سوريا قد تبدل، وهو يتكفل بقطع طريق التواصل بين إيران ولبنان، فلتبقى الأمور وفق الوتيرة الحالية، أي حرب استنزاف يومية يدفع ثمنها حزب الله كل لحظة وبشكل هادىء ودون صخب وضجيج، في وقت لن يستطيع فيه المغامرة بالرد. أما صواريخه الكبيرة فهو غير قادر على استخدامها، وأنه في حال ظهر شيء يدعو للقلق فإن السيطرة الإسرائيلية الجوية قادرة على التعامل معه. واللافت أن باريس تؤيد وجهة النظر هذه.
أما وجهة النظر الثانية، فيتبناها بشكل كبير العسكر إن داخل الجيش أو في مجلس الأمن القومي، ومعه اللوبي اليهودي المؤيد لإسرائيل. ويدعو هؤلاء لضرورة إتمام العمل الذي كان بدأ قبل عام من الآن، وعلى أساس أن المحطات التاريخية في لبنان كانت في كل مرة تعطي عامل الوقت لصالح الفريق الموالي لإيران وسوريا أيام آل الأسد. وبالتالي فإن ترك الظروف تحت رحمة الوقت سيعتبر بمثابة الوصفة المثالية لاستعادة إيران لقاعدتها المتقدمة في لبنان. وهو ما سيفتح لها باب العبث لاحقا باتجاه إسرائيل وأيضا باتجاه الداخل السوري، خصوصا وأن التركيبة الحاكمة في إيران باتت تروج بأن حماية أراضيها من أي تهديدات إنما ينبع من إعادة بناء منظومتها الإقليمية، وهو ما أثبتته الأحداث الأخيرة.
وتشير الأوساط المطلعة الى أن إدارة ترامب المدججة بالصقور تميل الى وجهة النظر هذه. ومن هنا جاءت التحذيرات النارية للموفد الرئاسي الأميركي السفير توم براك وأيضا السيناتور الأميركي ليندسي غراهام إضافة الى مسؤولين كبار. ويتوافق هؤلاء بأن انتهاء حرب غزة سيفتح الباب للإندفاع في اتجاه حسم الوضع على الساحة اللبنانية، خصوصا مع العلاقة مع الرئيس السوري أحمد الشرع والتي يصفونها بالممتازة. وكان واضحا مستوى الإهتمام والحفاوة الكبيرة بالشرع خلال وجوده في نيويورك. وهو صرح بوضوح عن عدائه لإيران وحزب الله. أضف الى ذلك وجود تفاهمات في العمق لا بد أن يكون قد نسجها أردوغان مع ترامب خلال اجتماعهما والذي أسفر موافقة واشنطن على تزويد الجيش التركي بطائرات حربية متطورة.
تستعد السفارة الأميركية في عوكر لاستقبال سفيرها الجديد اللبناني الأصل ميشال عيسى قريبا. لكن الأهم أن فريقا من المتخصصين سيواكب عيسى خلال تأديته لمهامه، مع تسجيل وصول المزيد من الديبلوماسيين الذين سيعملون من ضمن طاقم السفارة، والذين يتمتعون بخبرات عالية. وفي الليلة التي سبقت مغادرتها لمركز عملها، أبدت السفيرة ليزا جونسون أمام مجموعة صغيرة أتت لتوديعها، بأنها تخشى جدا من فوضى قد يشهدها لبنان. ورغم أن تعبيرها بقي غامضا ومن ضمن عبارة مقتضبة، إلا أنه من المرجح أنها كانت تقصد عودة الحرب الى لبنان.