
كما كان متوقعا، كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الأمم المتحدة هو محط أنظار وتعليقات الجميع، من خلال كلمته التي صاغها بأسلوبه الهادر والصادم. غالبا ما يوصف ترامب بالشعبوي أو القومي. لكن ثمة من بأنه من ينتمي الى فريق المحافظين الجدد. إلا أن هنالك إجماع بأنه صاحب لسان سليط، ويستخدم مفردات خطابية حادة. في المرة الأولى التي ألقى فيها كلمته في الأمم المتحدة ضحك الجميع مرات عدة، لكن هذه المرة ساد السكون كي لا نقول الوجوم في الصالة الفسيحة.
ما من شك أن دونالد ترامب، أو أكثر الرؤساء الأميركيين إثارة للجدل، وبعد فوزه بولاية رئاسية ثانية أصبح أكثر جرأة، وهو يتصرف وكأنه يمتلك السلطة المطلقة والكاملة. فهو يعتقد بأن القوة الأميركية ضرورية ليس فقط لضمان المصالح، بل أيضا لإعادة تشكيل العالم. وهنا يصبح استخدام القوة مبررا لأنها تخدم القيم العالمية و”السلام”. هي إشكالية عصية على الفهم، لكنها حقيقة حاضرة دائما في ذهن ترامب “الثوري” ولا بد من التحسب لها. كان حادا للغاية في تعابيره الصدامية.
وفي خطابه هاجم ترامب كل من تذكره، وأرفق عباراته الهجومية بشيء من السخرية عندما لزم الأمر. هاجم الأمم المتحدة والحلفاء الغربيين وملف التغيير المناخي. وهاجم أوروبا وحذرها في آن معا من خطر المهاجرين. في الواقع كان يعمل على تشجيع الأحزاب اليمينية المتشددة والتي باتت تشهد صعودا قويا باتجاه الإمساك بالسلطة في العديد من البلدان الأوروبية المهمة، مثل فرنسا وألمانيا ومؤخرا بريطانيا. أحد المعلقين الظرفاء وصف خطاب ترامب على الشكل التالي: ما رأيناه هو رئيس يريد الذهاب الى الحرب مع كل من كان جالسا في القاعة.
لكن ثمة قطبة مخفية ميزت خطابه تجاه إيران. فبعد أن هاجمها بقوة وواصفا إياها بأنها أول راع للإرهاب في العالم، قال بأنه لا يمكن السماح لها بحيازة أسلحة نووية. ولكن وبعد حوالي الساعتين أطل مرشد الثورة في إيران السيد علي خامنئي في خطاب مباشر وعبر التلفزيون الرسمي وهاجم الولايات المتحدة بشدة، ومعلنا أن المفاوضات معها وصلت الى طريق مسدود، وأن هذه المفاوضات لن تخدم مصالح طهران. وتابع قوله بأن التفاوض مع واشنطن ليس فقط لا يعود بالفائدة لنا بل يتسبب بأضرار كبيرة في الظروف الحالية، كما أن القبول بالتفاوض تحت التهديد يعني استسلاما للضغوط. ولكن خطاب خامنئي والذي تزامن مع وجود الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في نيويورك تضمن موقفا واضحا جرى تمريره بين العبارات القوية والتي نعت المفاوضات. فهو أعلن أن بلاده لا تسع لامتلاك قنابل نووية، “ونحن لا نحتاج لأسلحة نووية، ولا نعتزم إنتاجها”. وهذا الموقف الذي أعلنه خامنئي تحت سيل من المواقف الناعية للمفاوضات يتلاقى مع مطلب ترامب والذي أدرجه ضمن خطابه القوي. لا بل أن الرئيس الأيراني نفسه عاد وكرر هذا الموقف في اليوم التالي حين كان يلقي كلمته من على منبر الأمم المتحدة، حيث قال بأن إيران لم تسع مطلقا ولن تسع أبدا الى بناء قنبلة نووية، وهي لا تريد أسلحة نووية. ووفق ذلك يصبح من المنطقي أن ترتفع الشكوك حول إمكانية وجود تفاهمات ما جرى ترتيبها في الكواليس الجانبية حول البرنامج النووي الإيراني، ولكن مع ترك حرية التعبير الخطابي مفتوحة لأسباب داخلية.
فمن المعروف عن إيران انتهاجها سياسة مدروسة وحرصها على عدم تعريض نظامها لمخاطر غير محسوبة. فاستمرارية النظام الديني هي الأهم دائما. من هنا وصية الخميني إثر الحرب مع عراق صدام حسين يوم “تجرع السم”، بعدم أخذ إيران الى حرب جديدة. وهي الفتوى التي سهر على تطبيقها خلفه ولكن مع استغلال الهامش المفتوح ببراعة لتوسيع نفوذ إيران في المنطقة وتأمين ولادة المشروع النووي. لكن الأمور تفلتت إثر اندلاع حرب غزة، حيث أيقظت عملية “طوفان الأقصى” مخاوف تاريخية لدى اليهود، ما أدى الى ظهور “إسرائيل جديدة” وبقيادة حكومة يمينية شرسة ومتطرفة. وهذا ما أدى الى نسف المعادلات التي كانت ترتكز عليها المنطقة، وهو ما فتح الباب أمام مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، رغم الحرص الإيراني الدائم طوال مرحلة حربي غزة ولبنان على عدم تجاوز الخطوط الحمر. ومن البديهي الإعتقاد بأن الحرب مع إيران، والتي لم تدم أكثر من 12 يوما فقط، حتمت على القيادة الإيرانية إعادة إجراء قراءة شاملة للنتائج التي ظهرت، والعمل على إقفال الثغرات الأمنية الخطرة، وتبيان الجوانب القاتلة والتي أدت الى الإنزلاق باتجاه الحرب المباشرة. ووفق كل ما سبق فإن طهران، وبعيدا عن الخطابات الحماسية، لن تتهور وتنزلق في مواجهة جديدة ستشكل تهديدا أكيدا على استمرارية النظام الديني الحاكم، خصوصا وأن مستجدات عدة ساهمت في تعزيز تطويقها. كمثل رعاية واشنطن للطريق الذي يربط بين أذربيجان وتركيا. مع التذكير أيضا بأنها وقفت لوحدها تتلقى الضربات الجوية بعيدا عن أي مساعدة أو مساندة ممن صنفتهم حلفاء، كروسيا والصين. وهو ما يعني أن طهران باتت تجد ضرورة ملحة لإيجاد تفاهم حول برنامجها النووي، شرط ترك الشكل الخطابي عالي معارضا وعالي النبرة لحماية النظام نفسه من سهام المعارضة الداخلية، والمحافظة في الوقت عينه على هيبة التركيبة الحاكمة. وهذا الإخراج لا يزعج ترامب، لا بل فهو يريده أيضا.
ولذلك فإن من يسمع الخطابات الهادرة يظن للوهلة الأولى أن المواجهة مع إيران حاصلة غدا. لكن على أرض الواقع ليس هنالك حال استنفار أو حتى استعداد للقوات الأميركية. وللتذكير فإن التحشيد والإستنفار واستقدام الطائرات العسكرية الأميركية كان قد بدأ قبل أسابيع عدة من بدء الحرب على إيران. لكن الآن لا يوجد شيء من كل هذا. لا بل على العكس، فلقد انتقلت الغارات لتدخل مرحلة جديدة مع استهداف قطر. وهنا يصبح السؤال ما إذا كان حال التوافق الضمني مع إيران حول ملفها النووي سمح باكتمال الأجواء السياسية للإنتقال الى مرحلة قصف جديدة؟
لكن هذه التفاهمات الضمنية (إذا صحت التقديرات) لن تطال بالضرورة ساحات نفوذ إيران في الشرق الأوسط. خصوصا وأن خطة إعادة تشكيل المنطقة لا تلحظ نفوذا لها عند الشاطىء الشرقي للبحر المتوسط، وهو ما أعاد التأكيد عليه الرئيس السوري خلال وجوده في نيويورك. واستطرادا فإن التسوية في إيران لن تعني بالضرورة تهدئة في لبنان، لا بل على العكس.
فلقد كان مفاجئا للجميع الكلام الذي صدر عن الموفد الرئاسي الأميركي السفير توم براك حول لبنان، لدرجة أن البعض إعتقدها “زحطة” على غرار زحطاته السابقة. لكن ومع شيء من التدقيق يتبين بأن مواقف براك تمثل الموقف الحقيقي لإدارة ترامب، وأنه جرى التفاهم مسبقا معه حول الخطوط العريضة والعناوين التي أدلى بها خلال مقابلته التلفزيونية. ما يعني أن هنالك تفاهم موجود بين واشنطن وتل أبيب حول المرحلة التي ستطال لبنان قريبا. أي أن معالجة ملف سلاح حزب الله قد تحصل من خلال حرب جديدة. واللافت أنه ما إن انتهى براك من كلامه حتى أطلق نتنياهو تهديداته في الإتجاه نفسه. وهنا يبرز سؤال آخر ويتعلق بالمبادرة التي أطلقها أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم بتشجيع إيراني باتجاه السعودية. فلماذا أتت في هذا التوقيت؟ وهل المقصود منها السعي للإلتفاف على أمر يبدو حاصلا؟
وفي وقت رأى فيه البعض أن كلام براك بحق السلطات اللبنانية جاء قاسيا بعض الشيء فإن البعض الآخر وجد فيه رؤية غير واقعية لإمكانيات الدولة اللبنانية. وخلال نقاش جرى بين شخصية لبنانية ومسؤول في إدارة ترامب مصنف بأنه من الصقور، سألت الشخصية اللبنانية ما إذا كانت واشنطن تعتقد فعلا بأن للبنان القدرة على القيام بهذه المهمة. وتابعت قولها بأن المطلوب من لبنان أكبر من قدراته. لكن جواب المسؤول الأميركي جاء مقتضبا ويحوي الكثير من الألغاز حين قال: كلام براك هو بمثابة رفع للمسؤولية عما يمكن أن يحدث عندكم في المستقبل القريب.
منذ بضعة أيام تحدث الرئيس الروسي عن وجود اتفاق دولي غربي حول إنهاء غزة. وجاء كلامه في إطار مطالبته بشيء مماثل لأوكرانيا. والسؤال هنا، ما إذا كان هنالك اتفاق خفي لإقفال الملف اللبناني ولو على الساخن؟