
أحدثت مبادرة أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم تجاه السعودية مفاجأة من العيار الثقيل. والسبب يعود ليس فقط الى واقع المواجهة القائمة بينهما، والتي اشتدت إثر نجاح السعودية بتركيز واقع سياسي جديد في لبنان على مستويين السلطة والقوى والشخصيات السياسية على أنقاض المرحلة الماضية، لكن أيضا بسبب الحملات الإعلامية الشرسة على المملكة والتي كانت تتولاها ولأيام معدودة خلت، وسائل إعلامية وشخصيات محسوبة على حزب الله.
والإنطباع الأولي والذي يسود الأوساط السياسية وخصوصا الدوائر الديبلوماسية بأن مبادرة قاسم جاءت بطلب إيراني. وبالتالي فإن طهران أرادت تعزيز وتدعيم انفتاحها على السعودية عبر منبر أهم حليف لها في المنطقة وهو حزب الله. ولا شك بأن لهذه الإندفاعة الإيرانية أسباب عدة، رغم العداء السياسي ولاسيما العقائدي. لكن السياسة تحكمها الحسابات الواقعية والمصالح الفعلية. وهي الأرضية التي مهدت لهذا الإنفتاح. وهذا ما ورد في مبادرة قاسم حين تحدث بصراحة عن البحث عن حوار لإيجاد حلول للمخاوف وتأمين المصالح.
ومن المعروف عن إيران سعيها لأخذ العبر والدروس من الأزمات التي تمر بها. ولا حاجة للتكرار بأن حرب ال12 يوما التي مرت بها شكلت إحدى أهم الأزمات التي مرت بها على الإطلاق منذ قيام الثورة الإسلامية. وبخلاف ما كانت تعتقد، وجدت القيادة الدينية الإيرانية نفسها أمام حرب مباشرة كان قد حرمها الخميني، كما شهدت خللا داخليا كبيرا، وهو ما أظهر إرتفاع منسوب المخاطر على استمرارية النظام القائم، إضافة الى انكشاف دولي فاضح بعد انكفاء روسيا والصين ما جعلها مكشوفة بالكامل. والأهم من كل ذلك استمرار الإندفاعة الأميركية والإسرائيلية لانتزاع مخالبها الإقليمية والنووية بشكل كامل، عبر إعادة إيران الى إيران ومن دون قدرات عسكرية واقتصادية. وما رفع من منسوب القلق الإيراني إنضمام الترويكا الأوروبية الى جبهة المواجهة مع طهران، عبر إمكانية العودة السريعة الى العقوبات السابقة بعد أسبوع من الآن. ولا شك أن النظام الإيراني والمشهود له بأسلوبه السياسي المرن، وجد في استهداف إسرائيل لقطر فرصة ملائمة للنفاذ عبر الثغرة الذي أحدثها في الجدار الخليجي السميك، نتيجة الصراع الكبير الذي حصل، والذي وصل الى حد قصف السعودية والإمارات بالصواريخ والمسيرات.
وعلى هامش القمة الطارئة والتي عقدت في الدوحة إجتمع الرئيس الإيراني مطولا بولي العهد السعودي. وتلا ذلك زيارة لعلي لاريجاني الى الرياض. ووفق التسريبات الديبلوماسية فإن العديد من الملفات الشائكة جرى التطرق إليها وفي طليعتها ملفي اليمن ولبنان. ومن هنا معاني المبادرة التي أعلنها أمين عام حزب الله. صحيح أنه من المبكر جدا لا بل من المبالغ به الحديث عن إمكانية التوصل الى تفاهمات قريبة، لكن لا بد من الأخذ بعين الإعتبار أيضا تلك “النقزة” التي أحدثها استهداف الدوحة لكل دول الخليج. فلقد بدا أن إسرائيل لم تكن تنفذ هجوما عسكريا فقط، بل كانت تختبر أيضا صلابة ومتانة الواقع الخليجي ككل. لأجل ذلك أسرعت السعودية بإنجاز اتفاقها العسكري مع باكستان، وبهدف عدم ترك ثغرات ردعية لأمنهاعبر الإعتماد المطلق على المظلة الأمنية الأميركية، وذلك بالسعي لبناء ترتيبات دفاعية خارج الإطار الأميركي. وهو ما قد يفتح باب توسيع نطاق الإتفاق مع باكستان ليشمل دول خليجية أخرى. ولكن هذا الإتفاق مع باكستان صحيح أنه موجه ضد إسرائيل وسيزعج واشنطن بعض الشيء خصوصا وأنه يطال شريكين استراتيجيين لها، لكن وفي الوقت نفسه لن تكون إيران راضية عنه ضمنا. علما أنه لم يصدر أي تعليق من طهران على اتفاق يطال محيطها الأمني. فهو يمكن وضعه في خانة التحدي للأمن الإيراني ولو أن الظروف الحالية لإيران لا تسمح بالإعتراض.
ولا بد أن إيران تتوجس من عودة الإستهداف العسكري لها وسط مؤشرات عدة مقلقة. بدءا من التحضيرات العسكرية الإسرائيلية ووصولا الى الدعم الأميركي المفتوح. فالتقدرات بأن الحرب على غزة قد لا تطول. وما يعزز هذه التقديرات كيفية توظيف حركة حماس لورقة الأسرى الإسرائيليين لديها، وهو ما يوحي بأن قدرة الصمود لم تعد كبيرة. وتدرك طهران أن نتنياهو يستعد لتجديد حملته العسكرية على حزب الله فور الإنتهاء من غزة. ويحكى هنا عن البقاع ومواقع تخزين. الصواريخ. لذلك لا بد من متابعة زيارة وزير الخارجية السوري عن كثب الى واشنطن. خصوصا وسط الحديث عن اتفاقات أمنية يجري التفاهم حولها. وجاء كلام السيناتور الأميركي ليندسي غراهام وهو المقرب جدا من ترامب ليعزز المخاوف حيال تجدد الحرب على لبنان قريبا. فهو قال بوضوح كامل بأن الوقت حان لإنهاء وجود حزب الله كميليشيا مسلحة خارج إطار الدولة. وتابع قائلا بأن واشنطن لا تزال تفضل الحل السلمي بالتعاون مع الحكومة اللبنانية، لكن إذا فشلت الجهود السلمية فإن واشنطن وشركاءها مستعدون للإنتقال الى خيارات أخرى بما فيها استخدام الوسائل العسكرية. وكلام غراهم يتقاطع في بعض جوانبه مع الجواب السعودي على “مبادرة” الشيخ نعيم قاسم، لناحية التمسك بالدولة وقراراتها خصوصا لناحية حصر السلاح بيدها وإجراء الإصلاحات المطلوبة. فيما مبادرة قاسم إرتكزت على طمأنت الجميع بأن هدف السلاح هو إسرائيل وليس داخليا أو عربيا. ما يعني أن المبادرة لا تعني التخلي عن السلاح بل التفاهم حول وظيفته.
ولا شك أن منسوب القلق يرتفع مع زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني الى واشنطن. ذلك أن الإتفاقات المطروحة على طاولة البحث طابعها أمني. واللقاء مع الوزير الإسرائيلي الأقرب الى نتنياهو أي رون ديرمر لا بد أن تطال رؤية واسترتيجية نتنياهو في سوريا ولبنان، في وقت يشهد فيه الجنوب السوري توغلات إسرائيلية يومية، مع تمسك إسرائيلي بالبقاء في نقاط استراتيجية في جبل الشيخ والتي يصل إرتفاعها الى حوالي 2800 مترا، ما يجعلها تشرف بشكل كامل على البقاع اللبناني. وفي هذا الوقت سرحت الخارجية الأميركية وبشكل مفاجىء بعض من أهم ديبلوماسييها المعنيين بسوريا والذين كانا يتبعون عملهم إنطلاقا من اسطنبول. وبدت إدارة ترامب وكأنها تريد إبعاد موظفين يحملون ميولا وتعاطفا مع الأكراد لصالح التقارب أكثر مع نظام الشرع. وطبعا هنالك أثمان ما بالمقابل. وعملت أوساط وزارة الخارجية الأميركية على التسريب بأن استقرار سوريا الآن هو عامل مهم وأساسي في استراتيجية واشنطن في الشرق الأوسط خاصة فيما يخص مواجهة إيران و”أذرعها” في المنطقة. وهذا الكلام ليس بحاجة لأي تفسير. ووفق كل ما تقدم فإنه لا بد أن تكون طهران قلقة وكذلك حزب الله، وهو ما يفسر أكثر الإنعطافة الحوارية باتجاه السعودية. وفي الوقت نفسه يفسر أيضا الرد السعودي البارد والمتمسك بالسلطة اللبنانية القائمة وبالقرارات الصادرة عنها.
من المفترض أن تحتفل السفارة الأميركية في لبنان بعيدها الوطني العام المقبل في مقرها الجديد والضخم في عوكر. ويجري العمل منذ فترة على تحضير الطاقم الكبير الذي سيتولى إدارة هذه السفارة. ويجري كل ذلك تحت عنوان واضح ويقضي باستعادة الدور الخاص والمميز الذي كانت تتولاه السفارة الأميركية قبل اندلاع الحرب، على مستوى الشرق الأوسط. وجرت محاولة لاستعادة هذا الدور عام 1982 لكنه ما لبث أن فشل. ومنذ حوالي خمس سنوات وتحديدا مع إعادة بناء استراتيجية أميركية جديدة تجاه المنطقة، ترتكز على استعادة النفوذ الأميركي الكامل في الشرق الأوسط، بوشر بناء سفارة أميركية ضخمة تحاكي دورا على مستوى المنطقة ككل أكثر منه لبنان. ويجري استقدام أطقم متخصصة بالتدرج لتكوين جسم السفارة. وللمرة الأولى منذ زمن بعيد، وتحديدا منذ العام 1983 يجري استقدام كادرات تعتبر مميزة وتصنف بأنها من الدرجات العليا، والتي ستتوزع على الأقسام المختلفة للسفارة المميزة، وهو ما يؤشر الى معان عدة. وحتى السفير ميشال عيسى والذي سيصل قريبا الى مركز عمله، فسيعاونه بشكل مباشر فريق متخصص لمواكبة حركته اليومية. وهذه اللمحة السريعة لا بد أن تعطي فكرة عن الصورة التي رسمتها واشنطن حول لبنان مستقبلا، أو البلد الذي يملك شاطئا مميزا على الجهة الشرقية للبحر المتوسط، والذي يشكل أحد المداخل الأساسية باتجاه الشرق الأوسط، والذي بلغته إيران عام 2018 إثر نتائج الإنتخابات النيابية في عهد الرئيس ميشال عون، وعبر عن ذلك بفرح العديد من تصاريح كبار المسؤولين الإيرانيين.