مقالات صحفية

“مرحلة الحسم من غزة الى لبنان” بقلم الكاتب السياسي جوني منيّر

ما إن انتهت قمة الدوحة الإستثنائية حتى باشر الجيش الإسرائيلي بدفع قواته البرية باتجاه الأحياء السكنية في مدينة غزة. فالواضح أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو باشر بتنفيذ الفصل الأخير من مسار الحرب التدميرية القائمة على قطاع غزة وتحت أعذار شتى. صحيح أنه أعلن مرات عدة بأنه يهدف لتفكيك البنية العسكرية لحركة حماس، لكنه في الواقع يسعى لتهجير الفلسطينيين دفعة واحدة من قطاع غزة، وذلك عبر استغلال ما يعتبره فرصة تاريخية لا تتكرر، وصولا الى إزالة “كابوس غزة” والذي كان يقض مضجع الزعماء والمسؤولين الإسرائيليين، وهو ما جعل إسحق رابين يقول: ليتني أستفيق يوما ويكون البحر قد ابتلع غزة.
ومن هذا المنطلق وجد نتنياهو، ومعه اليمين الإسرائيلي، أن وقف الحرب من دون الذهاب الى تحقيق “حلول” جذرية سيكون خطأ جسيما للغاية. ومفهوم اليمين الإسرائيلي هنا يتلخص بدفع الفلسطينيين خارج أرضهم في قطاع غزة، والحرص على عدم القبول بأي قرار بوقف لإطلاق النار. ذلك أن العودة الى الحرب ستصبح صعبة. وطالما أن النار ما تزال مشتعلة، والظروف الأميركية مؤاتية جدا، فإن الإندفاع في إنجاز الفصل الأخير من الحرب المفتوحة يصبح ضرورة ملحة. صحيح أن ردود الفعل الدولية باتت سلبية على إسرائيل، لكن ما يهم هو الضوء الأخضر الأميركي. أما إعادة إصلاح صورة إسرائيل دوليا، فيمكن تحقيق ذلك لاحقا، لكن بعد إنجاز التغيير الكامل المطلوب الآن. باختصار فإن المرحلة الحالية هي مرحلة الحسم بالنسبة لنتنياهو، ودونالد ترامب لا يعارض ذلك. وعلى هذا الأساس تعمل الآلة العسكرية الإسرائيلية على تدمير كامل مظاهر العيش والحياة في مدينة غزة، ودفع الأهالي للنزوح. وتخطط الحكومة الإسرائيلية لأن يكون هذا النزوح نهائيا. ووفق المعلومات المتداولة على نطاق ضيق في الأروقة الديبلوماسية فإن وزارة الدفاع الإسرائيلية أبلغت البنتاغون بأن مدة العملية لن تطول كما يشاع في الإعلام. ففيما تحدثت وسائل إعلامية عن شهور عدة، فإن وزارة الدفاع الإسرائيلية تحدثت عن مدة قصيرة لا تتجاوز الأسابيع المعدودة لإتمام الأهداف الإسرائيلية.
في المقابل فإن واشنطن المتفاهمة مع تل أبيب على إعادة ترتيب المنطقة، تعمل على قطع كل الروابط الإيرانية مع الساحات العربية. وهي أشارت مرات عدة الى أنها تسعى للقضاء على المجموعات العسكرية المرتبطة بإيران، مثل حماس وحزب الله والميليشيات العراقية، إضافة الى محاصرة الحوثيين. ومن هذه الزاوية تفسر الأوساط الديبلوماسية هدف الضربة الإسرائيلية التي طالت قطر. فهذه الضربة التي نالت موافقة البيت الأبيض، رغم النفي الأميركي العلني، كانت تهدف للقول بأنه لا خطوط حمر تقف بوجه القضاء على القوى العسكرية المتحالفة مع إيران. لكن وقع الضربة أحدث صدمة هائلة، ليس فقط على قطر، بل على جميع دول الخليج. فالغطاء الأمني المتين الذي كانت تؤمنه الولايات المتحدة الأمريكية تبدد فجأة، وشعرت كل دولة خليجية بأنها أصبحت مكشوفة أمنيا. ومن هذا المنطلق جرى التداعي لمؤتمر الدوحة. لكن واشنطن تدرك جيدا بأن الظروف الدولية تعمل لمصلحتها. والسبب أن دولتين فقط تهتمان بساحات النفوذ الدولية، ويمكن أن تؤمنا لجوءا طارئا وآمنا الى حد ما، وهما روسيا والصين. ولكن روسيا غارقة في مشاكلها الكبرى في أوكرونيا وأوروبا. كما أن اققتصادها يعاني بشدة، ما يمنعها من التورط بتحدي واشنطن في الخليج. ومثلا هذا ما دفعها للإنكفاء عن المتغيرات الكبرى التي طالت سوريا. كذلك فإن الصين تدرس خطواتها بشكل بطيئ جدا وحذر. ورغم المنافسة الإقتصادية والتجارية القائمة بين بكين وواشنطن، إلا أن القيادة الصينية تحاذر إثارة واشنطن عبر مساحات نفوذها. وأبرز دليل على ذلك عدم إقتراب بكين من تايوان رغم حساسية الموضوع بالنسبة لها. باختصار فإن الظروف الدولية تلعب لصالح واشنطن في هذه الفترة. من هنا جاءت مقررات قمة الدوحة تحذيرية وليس تنفيذية. وفي الوقت نفسه جاء قصف قطر بمثابة اختبار إسرائيلي وأميركي لردود الفعل الخليجية. وهو ما يدفع للإستنتاج بأن الهوامش باتت أضيق في هذه المرحلة والتي تعتبر مرحلة الحسم.
والضغوط لا تقتصر على دول الخليج وحدها. ففي العراق تطورات لا تقل إثارة حجبها دخان القصف الهستيري في غزة والمفاجىء على الدوحة. فخلال الأيام الماضية أرسلت الإدارة الأميركية عبر سفارتها في بغداد رسالة الى الحكومة العراقية حذرت فيها الحكومة العراقية من احتمال استهداف إسرائيل لمكاتب ومقار حركة حماس والحوثيين الموجودة في بغداد وتحت حماية المجموعات الموالية لإيران. وأشار التحذير الأميركي الى أن هذه المكاتب تشهد نشاطات دائمة وحركة مستمرة، ما قد يدفع إسرائيل لقصفها عبر الجو. وبموازاة ذلك عمدت واشنطن الى تقليص حجم مساعداتها السنوية الى وزارة الدفاع العراقية من 189 مليون دولار لعام 2025 الى 48 مليون دولار للعام المقبل. وفي المقابل عمدت الى رفع قيمة مساعداتها للقوات الكردية في كردستان العراق لتصبح 61 مليون دولار. طبعا، فإن أهمية الخطوة هي بالرسائل التي حملتها، أكثر منها قيمتها المادية. وما من شك أن هذه الرسائل أثارت إمتعاض القوى والفصائل العراقية الموالية لإيران، خصوصا وأنه كان قد سبق ذلك تسليم واشنطن للقوات الكردية أسلحة متطورة شملت مدافع ثقيلة وذكية بعيدة المدى، بالإضافة الى منح عسكرية أخرى. وتولت أوساط ديبلوماسية معنية التسريب بأن خطوات واشنطن هي بمثابة رسائل تحذير وتأتي ردا على عدم التزام بغداد بفك ارتباطها مع طهران. ويأتي كل ذلك قبل الإنطلاق في الإنتخابات البرلمانية التي يتحضر لها العراق.
وأما على الصعيد اللبناني فلا تبدو الصورة أفضل. فالمساعدات التي طال انتظار لبنان لها ما تزال في علم الغيب. لا بل أن التسريبات الديبلوماسية تؤكد بأن لبنان لن ينال دولار واحد طالما أن حزب الله ما يزال يحتفظ بتركيبته العسكرية. وعلى الرغم من الإشارات المرنة التي ظهرت إثر مقررات جلسة الخامس من أيلول خصوصا لناحية إمساك القوى الأمنية الشرعية وحدها للحركة العسكرية على كافة الطرقات، إلا أن الأوساط الأميركية تتحدث عن رهان إيراني على الوقت في لبنان لا على الإلتزام بالحلول المطروحة. وهي تعطي مثالا على ذلك شحنات الأسلحة التي كان يجري تهريبها من سوريا الى لبنان. وتضيف هذه الأوساط بشيء من التهديد، بأن عدم تفهم لبنان بأن المرحلة هي مرحلة “الحسم” سيعني أن واشنطن ستترك لإسرائيل حرية الحركة والمعالجة بالطرق الحربية. وهي تشير في الوقت عينه الى التمركز الجديد الذي تقوم به القوات الإسرائيلية في المناطق السورية المطلة على البقاع اللبناني، وأنه يؤشر الى شيء ما مستقبلا.
لا بل أن هذه الأوساط لا تستبعد تجدد الحرب الجوية بين إسرائيل وإيران، خصوصا وأن الملف النووي لا يشهد أي تقدم ملموس وحقيقي. وتشير الأوساط نفسها الى قيام المصانع العسكرية الإسرائيلية بتحديث أنظمة الدفاع الجوي، والى إنتاج كميات كبيرة من الصواريخ الإعتراضية، ما يؤشر الى أن التحضيرات الإسرائيلية قائمة وبوتيرة سريعة استعدادا لحرب جديدة. كذلك فإن إيران تتحرك بسرعة أيضا لإعادة إنتاج صواريخ بالستية وفرط صوتية وهو السلاح الذي تفوقت به على إسرائيل إبان المواجهة الأخيرة.
هي مرحلة الحسم التي باشر بتنفيذها نتنياهو من غزة بمباركة إدارة ترامب، والتي قد تتمدد باتجاه لبنان وربما العراق وإيران نفسها. إلا إذا أيقن الجميع الى عمق الهوة التي يتجهون إليها بخطى ثابتة وسريعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى