مقالات صحفية

“حسابات دقيقة بين المرونة والإنتحار” بقلم الكاتب السياسي جوني منيّر

الإنطباع السائد لدى مختلف الأوساط اللبنانية كما لدى العواصم المتابعة للحقبة الجديدة التي دخلها لبنان منذ مطلع العام الحالي أن الأيام المقبلة تبدو حاسمة ودقيقة على مستوى المسار الجديد الذي يسلكه لبنان. ولا حاجة للشرح بأن السبب يعود لملف سلاح حزب الله، والجلسة الحكومية المخصصة لإقرار خطة الجيش اللبناني، في إطار تطبيق قرارات الحكومة المتخذة في جلستي الخامس والسابع من شهر آب الماضي.
وخلال الأيام الماضية رفع حزب الله صوته للتحذير من مغبة إدارة الجلسة المقبلة لمجلس الوزراء على طريقة جلستي الخامس والسابع من آب الماضي. أي أن تجاوز رأي وزراء الثنائي عبر الذهاب الى اعتماد التصويت وليس التفاهم، سيترتب عنه نتائج مختلفة عما آلت إليه الأمور في جلستي آب. وجرى تسريب عدة سيناريوهات في الأوساط الإعلامية الحليفة للثنائي تتراوح ما بين التلويح بالخروج نهائيا من الحكومة، وتحريك الأرض، وأيضا العودة الى منطقة جنوب الليطاني، وصولا الى التحذير من عودة الحرب الأهلية في حال تطبيق خطة الجيش بالقوة. وأرفقت هذه التحذيرات بحملة استهداف طالت رئيس الجمهورية العماد جوزف عون ورئيس الحكومة نواف سلام. لكن اللافت كان الغمز الضمني من قناة الرئيس نبيه بري رغم تبني خطابه في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر.
في المقابل سعى أركان السلطة لتدوير الزوايا ولكن مع التشديد على أن لا عودة الى الوراء، وأن القرار المتخذ سيطبق، وهو ما جاهر به الرئيس سلام والذي تعمد الإجتماع بقائد الجيش كإشارة واضحة. إلا أن الإتصالات الجانبية بقيت ناشطة وبوتيرة مرتفعة لإبتداع المخرج المناسب. ومن هنا جرى حل موضوع مشاركة وزراء الثنائي من خلال إدراج بنود إضافية على جدول أعمال الجلسة، وبحيث لا يكون ملف دراسة خطة الجيش هو البند الوحيد. وفي ذلك مخرج شكلي يؤدي للتحايل على ما اصطلح على تسميته في المراحل السابقة بالميثاقية. وكذلك أبدى الثنائي الشيعي استعداده للنقاش في الخطة التي ستقدمها قيادة الجيش وإبداء ملاحظاته عليها. لكن وفي حال طرح هذا البند على التصويت سينسحب وزراء الثنائي من الجلسة.
ووفق ما تقدم يمكن الخروج باستنتاجات سريعة وفق الآتي: أولا، وعلى الرغم من حدة التخاطب السياسي والإعلامي، إلا أن سياق الأمور يظهر بأن السقف العام لا يسمح بالإنزلاق من مستوى التلويح بالقوة الى مستوى استخدام القوة وتنفيذ التهديدات. فالظروف الداخلية كما الإقليمية والدولية لا تسمح بذلك. وأي خطأ بالحسابات والتقديرات ستؤدي الى الإنتحار، خصوصا وأن المنطقة تمر بمرحلة تحولات كبرى.
ثانيا، ما من شك أن الظروف والوقائع والمعطيات تفرض على الرئيس بري وقيادة حزب الله التنسيق الى أقصى حد ممكن، ولو أن هنالك تباين في وجهات النظر حول السلوك الواجب اتباعه لضمان مصالح الطائفة الشيعية. وبدا ذلك واضحا مع كلمة الرئيس نبيه الذي طرح الحوار فورا تحت سقف الدستور، فيما كان أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم قد طرح الشروع بالحوار حول الإستراتيجية الدفاعية ولكن بعد الإنسحاب الإسرائيلي وإطلاق الأسرى ووقف الإعتداءات الإسرائيلية اليومية. لكن وفي كلا الحالتين ثمة إقرار ضمني بأن ملف السلاح بات على الطاولة، فالظروف الداخلية والإقليمية تغيرت، ولكن ثمة تفاهمات وأثمان لا بد من النقاش فيها، وهذه الأثمان ما تزال مبهمة أو على الأقل غير معلنة.
ثالثا، هنالك من يستنتج بأن الفريق الشيعي يريد برنامجا زمنيا غير محدد بتواريخ أو على الأقل جعل الإطار الزمني فضفاضا، على أمل أن يصبح الحوار الموعود متقاربا مع اقتراب الإستحقاق النيابي المنتظر والذي سيشكل محطة أساسية في التركيبة الجديدة. والمقصود هنا أن يصبح الحوار يطال حكما دستور الطائف القائم، وهو ما سيؤدي الى تأجيل هذا الإستحقاق لسنة إضافية يجري خلال هذه المدة إدخال “الأثمان” السياسية المطلوبة الى صلب الدستور.
طبعا لم يتبنى أحد وبشكل واضح كل ما سبق، بل بقي النقاش المعلن محصورا في إطار العناوين التقليدية والكلاسيكية للصراع القائم مع إسرائيل.
ولكن وعند الضفة الدولية، وتحديدا الأميركية، والتي تتابع عن كثب المستجدات اللبنانية، فإن واشنطن والتي أظهرت بوضوح اهتمامها بالملف اللبناني، أبدت في الوقت عينه عدم “زحزحتها” عن قرار تنفيذ الحكومة لقرار حصر السلاح بيدها. وعدا الوفد الفضفاض الذي زار بيروت وطريقة تنقله المعبرة، فإن الإشارة الأميركية الثانية جاءت مع الإعلان مسبقا عن زيارة مورغان أورتيغاس الى بيروت يوم الأحد المقبل ولكن هذه المرة برفقة القائد الجديد للسنتكوم براد كروبر. ففي العادة فإن زيارات قادة السينتكوم الى بيروت لا يعلن عنها إلا بعد حصولها، وهو ما يعني أن في هذا الإعلان المسبق وقبل انعقاد جلسة مجلس الوزراء إشارة ذات مغزى. صحيح أن التفسير المعلن لزيارته يتعلق باللجنة العسكرية المكلفة بتطبيق القرار 1701 وآلية “الميكانيزم” إضافة الى الإطلاع على حاجة الجيش للقيام بمهامه، لكن ثمة تفسيرات أخرى تطال التوقيت الذي جرى انتقاؤه لاسيما وأنه سيكون برفقة أورتاغوس. وهو ما دفع البعض لوضع الزيارة في إطار الدعم التنفيذي للجيش اللبناني في أي خطوة سيتخذها.
ففي الأروقة الديبلوماسية كلام كثير حول عدم حصول تبدل جذري حقيقي وكامل للأوضاع على الأرض في ظل الإفتقاد لإنتاج أدوات ووسائل ضغط فعالة تدفع في هذا الإتجاه. وتؤكد هذه الأوساط أنه لا عودة عن قرار إخراج النفوذ الإيراني من منطقة الساحل الشرقي للبحر المتوسط. وتضيف بأن العقوبات الفردية أو حتى التي طالت الشبكات المالية لم تؤد الى النتيجة المرجوة، في وقت تبدو الركائز الإقتصادية الضعيفة للدولة اللبنانية وكأنها تضع لبنان على شفير انهيار قريب. وبالتالي فإن هذه الأوساط تعتقد أنه لا بد من مضاعفة الضغط، والإنطلاق الى خطوات تنفيذية بالتوازي مع التطورات في المنطقة، وعدم إفساح المجال أمام استهلاك الوقت والغرق في التفاصيل، والغوص في مشاريع خلق معادلات دستورية جديدة تعارضها معظم دول المنطقة. وتعطي الأوساط الديبلوماسية ما يحصل في العراق كمثل على ذلك. فلقد جرى ترحيل التصويت على مشروع قانون الحشد الشعبي الى ما بعد الإنتخابات النيابية بعدما سحبت الحكومة المشروع. مع العلم أن ذلك حصل بموافقة أحزاب وكتل تحالف الإطار الشيعي الحاكم في العراق والذي يضم كل الأحزاب الشيعية المشاركة في الحكومة والحليفة لإيران. وقيل أن أسباب الموافقة تعود للموقف الأميركي الحازم والجدي، وهو ما جعل طهران التي تستعد لاستئناف مفاوضاتها الصعبة مع واشنطن، للتعاطي بشكل مرن مع الإعتراض الأميركي. وهو ما جعل البعض يعتقد أن البحث بصيغة دستورية جديدة للبنان سيترك للمجلس النيابي القادم. أما قرار حصر السلاح بيد الدولة فيجب أن يجري تطبيقه في المرحلة الحالية وبمعزل عن النقاش الدستوري لاحقا.
وتلفت الأوساط عينها الى التطورات المتلاحقة في المنطقة، كمثل مجاهرة عضو مجلس الرئاسة في حزب الإتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا صالح مسلم بأن حزبه لن يقبل بالعودة الى نظام مركزي بالكامل في سوريا، وأنه في حال رفض ذلك فسوف يطالب بالإستقلال، أي الإنفصال. وكان الدروز قد أعلنوا موقفا مشابها. وأضاف مسلم في مقابلة مع صحيفة “كردستان نيوز” بأن اللامركزية يمكن أن تتجسد بأشكال مختلفة مثل الحكم الذاتي أو الإدارة الإقليمية أو حتى الفيدرالية. وبالتالي فإن لبنان الذي سيتأثر بشكل مباشر بالمستجدات التي ستحصل بالجوار، لا بد أن يبحث بهدوء بمشاكله الدستورية ولكن بعد انتخاب مجلس نواب جديد وليس من خلال المجلس الحالي.
وحزب الله يدرك أنه يمسك بورقة قوية بيده وهي عدم وجود منافس جدي على الساحة الشيعية بوجه تحالفه مع حركة أمل، وسط ضعف في البدائل. فالأطراف المعارضة له فشلت في ترجمة حضورها على المستوى الشعبي. بدليل أن خسارته للحرب التي جرت والنتائج المأسوية التي نتجت عنها لم تنجح القوى المعارضة له في ترجمتها الى ضغوط فعلية على سلاحه. لا بل على العكس، فإن الحملات الغير مدروسة والغرائزية في معظم الأحيان أدت الى نتائج عكسية. وفي المقابل نجح حزب الله في إعطاء الهوية الشيعية للسلاح وليس الصبغة الإيرانية. لا بل أكثر فإن حزب الله استفاد الى الحد الأقصى من الخطاب الغرائزي الذي طاله، من خلال تعبئة الساحة الشيعية الى الحد الأقصى، لدرجة أن الشريحة التي كانت تصنف كمستقلة أو علمانية ذابت تحت عبء حملات غوغائية وغير مدروسة وتستعجل “اقتناص الأرباح”، وأدت الى تعزيز المخاوف “الوجودية” لدى مختلف شرائح الشارع الشيعي، ودفعه للإصطفاف خلف “السلاح” القادر وحده على الحماية.
لكن في النتيجة فإن العنوان العريض في المنطقة لا يسمح بترف التصعيد أو الإندفاع في مغامرات غير محسوبة. ولفت ما ظهر في الإعلام حول انفجار مخزن للسلاح والذخيرة كان لحزب الله في منطقة القصر ما أدى الى مقتل العديد من العناصر التابعة للجيش السوري. وهو ما قرأت فيه بعض الجهات المراقبة بداية تحضير أو تلويح لاستعادة التوتر والتصعيد عند الحدود اللبنانية_السورية.
لا شك بأن الأيام المقبلة حاسمة ودقيقة، لكن الظروف لا تسمح بترجمة التهويل الإعلامي الى تصعيد ميداني، وأقرب الحلول تبقى بتدوير الزوايا. وقد يكون مكمن الخطر الحقيقي هو بارتفاع مخاطر عودة الإغتيالات، بهدف نسف المعادلة التي قامت على مستوى السلطة، ونقطة الإرتكاز هنا رئاسة الجمهورية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى