
جاء خطاب رئيس مجلس النواب نبيه بري ليخالف مناخ القلق الذي ساد خلال الأسابيع الماضية، والقائم على الخشية من إنزلاق الأمور باتجاه ضرب الإستقرار القائم على المستويين الحكومي والأمني. لا بل أكثر فإن الرئيس بري إخترق الحاجز المعنوي عندما اعتبر، وبصياغة “حاذقة”، بأن نقاش سلاح المقاومة ممكن تحت سقف الدستور وخطاب القسم والبيان الوزاري والمواثيق الدولية. وليس أبدا تحت وطأة التهديد ولا بضرب الميثاقية ولا باستباحة الدستور.
تجمع الأوساط الديبلوماسية المتابعة للشأن اللبناني على الحرفية السياسية العالية لنبيه بري، وهو ما أشار إليه صراحة عضو مجلس الشيوخ الأميركي ليندسي غراهام لحظة دخوله مكتب رئيس المجلس. ووفق تقييم هؤلاء فإن “الثعلب العجوز” راكم خبرة سياسية طويلة في مسيرة صعبة ومتعرجة عاصرت العديد من المراحل والحقبات، ما سمح له باكتساب دروسا تجعله يتنبه للأفخاخ التي تلوح في الأفق. ولا شك أن بري الذي حقق طموحاته السياسية في مسيرة حافلة، وكان معارضا لفخ “حرب الإسناد”، يعيش هاجس مستقبل الطائفة الشيعية وسط التحديات الوجودية في خضم التغييرات الكبرى التي تطال عمق المنطقة. فهو يدرك تماما بأن القوى الكبرى تعمل على إرساء ليس فقط معادلة جديدة بل خصوصا خارطة جديدة، قد يطيح رسمها بأي مكون قد يعترضها. فما يحصل على المستوى الفلسطيني وسط صمت عالمي لا يمكن حصره في نطاق ضيق ومحدود، بل هو يؤسس لحقبة جديدة مختلفة بالكامل عما سبقها. والتحولات الكبرى في المنطقة قد تجعل من المكونات اللبنانية مكانا لتسديد الفواتير.
ما من شك أن الولايات المتحدة الأمريكية نجحت في بسط نفوذها الكامل على منطقة الشرق الأوسط إثر البراكين العسكرية التي تفجرت خلال العامين الماضيين. حتى إسرائيل نفسها لمست لمس اليد بأن قدرة استمرارها ككيان في هذه المنطقة غير قابل للتحقق من دون الحماية الأميركية العسكرية الدائمة. والأغرب من ذلك أن “وهم” القوى الدولية الأخرى تبدد كالسراب خلال السنتين الماضيتين. فحتى روسيا، ثاني قوة عسكرية عالمية بدت بحاجة للمظلة العسكرية الأميركية للحفاظ على وجودها في سوريا. ولم يعد سرا أن المنطقة بكاملها باتت تخضع للرقابة العسكرية الأميركية طوال ساعات اليوم، من خلال الأقمار الصناعية وطائرات الإستطلاع والتجسس. ولذلك قد يكون الرئيس بري يدرك أن زمنا آخر بدأ يحل على لبنان، ما يستوجب الحذر والتأني وليس المكابرة والمخاطرة.
وفي الجوار ما تزال الحكومة الإسرائيلية المتطرفة تمسك بزمام الأمور وتسعى لتحقيق “رؤيتها الإلهية”. أضف الى ذلك أن الأزمات الداخلية لبنيامين نتنياهو تتفاقم وسط قلقه من انفراط عقد التحالف الحكومي وبالتالي دفعه لانتخابات مبكرة. فعدا سعيه الدائم لتحقيق معتقداته الإيديولوجية وطموحه بتجاوز المكانة التاريخية لبن غوريون، يسعى نتنياهو لإرضاء قواعد الشارعين اليميني والمتطرف عبر إبقاء حال الحرب قائمة للوصول الى دولة يهودية خالية من الوجود الفلسطيني. وهنا مكمن الخطر بالنسبة للبنان في المرحلة الحالية. ألم يصرح علنا وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بأن إسرائيل ستعتمد سلوكا هجوميا على كل الجبهات؟. والضربة التي طالت رئيس وأعضاء الحكومة التابعة للحوثيين تثبت ذلك. لا بل أن الإنزال الجوي الإسرائيلي في تل المانع جنوب غرب دمشق يحمل مؤشرات خطرة. فالغارة البرية التي نفذتها مروحيات وطائرات حربية والتي استمرت زهاء الساعتين هي الأولى من نوعها منذ سقوط نظام بشار الأسد. وهي حصلت في خضم الحديث عن تحقيق تقدم في المفاوضات الجارية بين سوريا وإسرائيل للتوصل الى تفاهمات أمنية ستفتح الباب أمام مفاوضات سياسية أوسع. ورغم ذلك جرت الغارة الجوية في ريف دمشق، وسقط فيها العديد من الجنود السوريين.
وعلى المستوى الإيراني أعلنت طهران على لسان وزير خارجيتها موافقتها على العودة الى مفاوضاتها مع واشنطن رغم الضربة الجوية الأميركية والتي طالت المنشآت النووية الإيرانية. صحيح أن الرئيس الإيراني يشارك في اجتماعات الصين، لكن إيران واجهت الحرب الجوية عليها لوحدها ومكشوفة الرأس، وحتى من دون تزويدها بأسلحة دفاعية متطورة. وخلال الأيام الماضية أعلنت الترويكا الأوروبية تفعيل آلية العقوبات السريعة “سناب باك” ما يمثل تحولا جذريا في السلوك السياسي تجاه إيران. وجرى منح طهران مهلة 30 يوما، ما يعتبر مهلة للديبلوماسية للتوصل الى الحل المطلوب. وفي حال لم يحصل ذلك فإن العقوبات تفعل تلقائيا. صحيح أن هذه الإجراءات تستهدف البرامج النووية والبالستية، إلا أن تأثيرها غير المباشر على الإقتصاد الإيراني الهش هو حتمي. ولا شك أن التبادل التجاري بين أوروبا وإيران منخفض المستوى، لكن بالنسبة لإيران ستعزز هذه العقوبات الشعور بالعزلة وترفع مستوى التضخم.
وكان لافتا ما قاله أول قائد للحرس الثوري الإيراني جواد منصوري لموقع “خبر أونلاين” الإيراني بأن إيران يجب أن تكون مستعدة لحرب جديدة، فإذا اندلعت مجددا فإن نطاقها سيكون واسعا. ولكنه تابع قائلا: إذا قال أحد أننا لا نواجه إختراقا فهو إما لا يعرف ما هو الإختراق أو إما هو مخترق أو لا يدرك الأمر. وتابع منصوري كلامه الصادم قائلا: ليس مستبعدا أن يصل الإختراق الى المستويات العليا. وختم كلامه بالإشارة الى أن عودة المفاوضات بين طهران وواشنطن خلقت توقعا بالتخلي عن المواجهة المباشرة مع إسرائيل، لكنه أكد أن إسرائيل لن تقبل أبدا بالتعايش مع الجمهورية الإسلامية.
ووفق ما تقدم يظهر بوضوح الحسابات الصعبة التي باتت تخيم على المنطقة، وهو ما يحتم على لبنان التأقلم مع الظروف الصعبة القائمة من خلال حسابات واقعية، وليس التهور. ذلك أن مؤشرات الشروع في تسلم السلاح الفلسطيني هي بليغة ويجب قراءتها بدقة وتمعن، خصوصا وأنه الأول من نوعه منذ اتفاق القاهرة عام 1969. وبتفسير أدق، هو القرار الذي شرع أبواب لبنان أمام اندلاع الحرب الأهلية وتمزيق النسيج اللبناني وتشليع الخارطة الجغرافية التي كانت ما تزال طرية العود. لا بل أكثر فإن الجهة الدولية التي أشرفت على هندسة هذا القرار تدرك جيدا أنها تخلق فراغا أمام سلاح حركة حماس والتنظيمات الإسلامية في حال لم تستتبع الخطوة بنزع سلاح هذه التنظيمات. ولا حاجة للكثير من التحليل للإستنتاج بأن إنهاء الجسم العسكري لحماس في غزة يعني حكما نزع سلاحها في مخيمات لبنان، وعلى أمل ألا تحصل قراءة خاطئة لهذا المشهد. على أن تبقى العبرة في مخيم عين الحلوة.
وبخلاف المواقف العالية السقف إلا أن هنالك من يقرأ بأن الخلفية هي للتمهيد للتفاوض وليس لتحضير الأرض للذهاب للتصادم. وجاء كلام الرئيس نبيه بري بالأمس ليؤكد ذلك. فالأوساط الديبلوماسية تعتقد بأن الحسابات باتت مكشوفة، وأن القوى اللبنانية واقعية ولن تنزلق باتجاه الإنتحار. ما يعني بأن وظيفة إطلاق المواقف العالية السقف تهدف للدخول الى قاعات التفاوض من الباب العريض والسعي لتحقيق أثمان مرتفعة لا الذهاب لصدام معروفة نتائجه سلفا. لكن المشكلة هنا أن هنالك من يطرح أثمان “دستورية” وهو ما يبدو مستحيلا في ظل رفض داخلي وإقليمي ودولي. ما يعني أن حظوظ تعديل بنود اتفاق الطائف تبدو شبه مستحيلة. ويبدو العراق كمثل واضح في هذا المجال، رغم أنه يختزن ظروف وعوامل مؤاتية أكثر. أما على مستوى الإقتراحات الأمنية والعسكرية فإن الإحتمالات تصبح أكبر شرط ألا تؤدي الى خلل بنيوي في تركيبة الدولة القائمة.
من يقرأ في خلفيات كلام الرئيس نبيه بري بالأمس يشعر بوضوح ثقل أحمال المرحلة مع سعيه لتفادي دفع فواتير مجانية تضاف الى فواتير الحرب الصعبة التي ضربت لبنان.