مقالات صحفية

“الحسابات الواقعية تمنع الإنتحار” بقلم الكاتب السياسي جوني منيّر

خلال الأيام الماضية إرتفعت المخاوف في الشارع اللبناني من احتمال جنوح الوضع الأمني الى صدام داخلي، وذلك إثر النتائج السلبية للزيارة الجافة للمسؤول الإيراني علي لاريجاني وما تلاها من مواقف حادة وعالية السقف لأمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم، وأيضا زيارة الموفد الرئاسي الأميركي توم براك مصطحبا مورغان أورتيغاس وتكرار تمسك بلاده بالبرنامج الموضوع.
وعلى الرغم من رفع مستوى الحذر الأمني لدى بعض البعثات الديبلوماسية العاملة في لبنان وفي طليعتها الطاقم الديبلوماسي الأميركي، إلا أن التقييم الغالب كان باستبعاد لجوء إيران الى هز الإستقرار الأمني الهش الذي يعيشه لبنان لأسباب عديدة، أهمها بسبب الكلفة العالية التي ستترتب جراء ذلك وبالتالي عدم وجود مناخ لبناني داخلي مؤات، وأيضا بسبب تكريس معادلة دولية جديدة تظهرت بوضوح أكثر بعد القمة الأميركية_الروسية في ألاسكا. وصحيح أن العنوان العريض لهذه القمة تمحور حول ملف إنهاء الحرب في أوكرانيا، إلا أن العلاقة مع إيران من خلال الملف النووي كانت حاضرة، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال على الواقع اللبناني. فموسكو التي ستستفيد كثيرا من خاصرتها التي تنزف في أوكرانيا، إضافة الى استعادة انتعاشها الإقتصادي، فإن إدارة ترامب حققت نقطة ثمينة عبر اجتذاب موسكو من حضن بكين، في تكرار لاستراتيجية “الفصل” التي نفذها الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون عام 1972، حين نفذ انفتاحا نفذه هنري كيسنجر على القيادة الصينية، وأدى ذلك الى فصل بكين عن موسكو، ما أدى الى احتواء النفوذ القوي للإتحاد السوفياتي يومها. وفي مقابلة له مع شبكة فوكس نيوز، إنتقد ترامب بشدة سياسة سلفه جو بايدن عندما قال: لقد فعل شيئا لا يصدق، فلقد ساهم في تقريب روسيا من الصين، وهذا ليس حكيما. فحتى لو كنت طالب تاريخ بسيط، فإن الشيء الوحيد الذي لا ترغب في فعله هو ما جرى.
وليس سرا أن إيران وخلال سعيها في السنوات السابقة لتركيز نفوذها في المنطقة، وتحديدا باتجاه الساحل الشرقي للبحر المتوسط، نسجت علاقة إستراتيجية مع موسكو بدأها قاسم سليماني في العام 2015 ما أدى لدخول روسي مباشر في الحرب الدائرة في سوريا في 30 أيلول من العام نفسه، وهو ما أنتج إنقلابا في مسار هذه الحرب والتي كانت تهدد نظام الأسد بالسقوط يومها. ومع تطور الأوضاع العسكرية في سوريا وتوسع دائرة النفوذ الروسي، تطورت أكثر فأكثر النظرة الإسستراتيجية الروسية تجاه سوريا والمنطقة إنطلاقا من العلاقة الممتازة التي قامت بين موسكو وطهران. ففي الوقت الذي رسخت فيه روسيا مصالحها البحرية في بحر المتوسط من خلال قاعدة طرطوس المهمة، لعبت قاعدة حميميم الجوية دورا أساسيا في مراقبة ورصد كافة أنواع التحركات في الدول المجاورة، وهو ما جعل موسكو تتبادل الخدمات مع كل من طهران ودمشق، في وقت كانت فيه قاعدة أنجرليك الأميركية في تركيا تتولى لوحدها السيطرة الجوية والتنصت والمراقبة لعواصم المنطقة. وعلى سبيل المثال، فإن قاعدة حميميم الروسية ساهمت بشكل مباشر في إجهاض محاولة الإنقلاب التي قام بها ضباط في الجيش التركي ضد أردوغان، في صيف العام 2016. وفي الوقت نفسه قيد الوجود الجوي والبحري الروسي الحركة العسكرية التركية وجعل هامشها أضيق بكثير من السابق. وشكل ذلك أحد جوانب المصلحة الروسية_الإيرانية المشتركة.
وثمة أمثلة أكثر وضوحا لاستفادة إيران من المظلة العسكرية الروسية. فخلال المعارك الطاحنة التي دارت في شمال سوريا بين المجموعات الموالية لطهران وفي طليعتها حزب الله وبين المجموعات التكفيرية والتي كانت تتغذى من جهات مساعدة موجودة على الأراضي التركية، كانت الطائرات والمدفعية الروسية تؤمن تغطية نارية هائلة ما يسمح لمجموعات حزب الله بصد الهجمات والتغلب عليها. ذلك أن المجموعات المتشددة كانت تمتاز بعاملين: الأول قدرتها اللامحدودة بحشد العناصر القتالية، والثاني شراستها في القتال والنابع من طبيعة “عقيدتها” الدينية. وكانت عناصر الإيغور من أشرس المجموعات التي واجهها حزب الله في سوريا.
أما النموذج الثاني للمظلة الأمنية التي كانت تتولاها موسكو لصالح تأمين الحماية للنفوذ الإيراني فكانت عبر تقديم المعلومات الحساسة التي تؤمنها أجهزة الرصد الروسية والموجودة في قاعدة حميميم الجوية. وعلى سبيل المثال كانت هنالك غرفة تنسيق مباشرة مجهزة بخطوط تواصل سريعة مع غرفة العمليات السورية، حيث كانت القيادة العسكرية الروسية تقوم بإبلاغ دمشق لحظة انطلاق الطائرات الحربية الإسرائيلية من قواعدها العسكرية لقصف أهداف في سوريا. وكان التحذير الروسي يتضمن أنواع الطائرات مما يسهل معرفة نوعية الهدف الذي تتحرك من أجله. ولا شك أن إسرائيل كانت تعرف ذلك، لكنها في المقابل كانت قد حصلت على “غض نظر” روسي تجاه تركها تجوب السماء السورية. أي أن سياسة موسكو كانت يومها بالإمساك بالعصى من وسطها، وهي ساقت التبريرات التي تسمح لها بنهجها لدى كل من دمشق وتل أبيب. واستمرت موسكو بسياستها هذه حتى مرحلة سقوط بشار الأسد. وعلى سبيل المثال وخلال مرحلة حرب الإسناد التي تولاها حزب الله وقبل انفجار الحرب على وسعها في أيلول الماضي، أبلغت غرفة العمليات في حميميم أن طائرات من أف 35 إنطلقت من القاعدة الجوية الإسرائيلية ووجهتها لبنان. وكان ذلك في أواخر شهر تموز من العام 2024. وعلى الفور أبلغت دمشق غرفة عمليات حزب الله في حارة حريك في الضاحية الجنوبية بالتحذير الروسي. ذلك أن خط اتصال مباشر وسريع كان يربط أيضا بين غرفتي عمليات الجيش السوري بحزب الله. ويومها تلقى فؤاد شكر التحذير بصفته رئيس أركان حزب الله. وكون الطائرات من نوع أف 35 المتطورة كان الإستنتاج بأن الأهداف المتوقعة هي إما في البقاع أو على الأراضي السورية القريبة، وأنها ستطال مخازن يشتبه بأنها تحتوي صواريخ نوعية. لكن الغارة يومها إستهدفت غرفة عمليات حزب الله في الضاحية بهدف إغتيال شكر نفسه، وهو ما حصل.
والمقصود مما سبق الإشارة الى الأهمية القصوى للمظلة العسكرية والأمنية والجوية التي كانت تؤمنها موسكو لساحات نفوذ إيران في سوريا ولبنان. لكن هذا السلوك الروسي كان ققد باشر انعطافته مع سقوط نظام بشار الأسد. وبالأمس ومع نتائج قمة الألسكا تكرست هذه الإنعطافة الجديدة إثر نسج استراتيجية جديدة ستجد فيها موسكو تموضعا جديدا في المنطقة. فخلال التحضير لأعمال القمة بين فريقي الرئيسين ترامب وبوتين استعادت الحركة الجوية الروسية حركتها ولو بشكل محدود في سماء شمال سوريا. وهو مؤشر واضح على حصول تفاهمات مع الأميركيين، سمحت بموجبها القيادة الوسطى للجيش الأميركي “سنتكوم” للطائرات الروسية بتحركات ومهام جديدة، ولو أنها ما تزال محدودة. ولا حاجة للكثير من التفكير للإستنتاج بأن هذه الحركة الروسية الجديدة بات لديها برنامج عمل ومهام مختلفة عن السابق.
ربما لذلك جاءت زيارة لاريجاني الى بيروت، وهو ما فسره البعض بأنه للقول بأن النفوذ الإيراني ما يزال موجودا. وهو أيضا ما يفسر الرسائل العنيفة التي حملتها كلمة الشيخ نعيم قاسم والتي كانت وجهتها المباشرة واشنطن وضمنا التفاهم الأميركي_الروسي الجديد. لكن موازين القوى الدولية المستجدة لا تسمح لإيران بسلوك مسار إنتحاري في لبنان. ذلك أنها تدرك بأن النتائج لن تقتصر على الساحة اللبنانية بل أنها قد تصل الى ساحات أبعد. فالقيادة الإيرانية والتي ما تزال في طور لملمة آثار الحرب عليها والسعي لترميم برنامجها النووي وجدت نفسها ملزمة بالموافقة على العودة الى مفاوضاتها مع واشنطن حول برنامجها النووي وسط تصاعد أصوات الأوساط الإيرانية المعترضة على الرهان النووي الإيراني، والذي كلف إيران أثمانا باهظة من دون حصد أية نتائج إيجابية.
وبالتالي فإن الذهاب باتجاه خيار استهداف التركيبة الجديدة في لبنان من خلال هز الإستقرار الأمني أو الصدام مع الجيش أو هز الإستقرار الحكومي، إنما سيكون بمثابة إعلان المواجهة وسط ظروف إقليمية ودولية معاكسة.
أضف الى ذلك أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو والذي يمر بمرحلة داخلية صعبة، قد يكون يبحث عن ثغرة في الجوار تمنحه تبريرا أمام شارعه الداخلي لتجديد تصعيده العسكري وإنقاذ نفسه وسط تصاعد الحملات المعارضة له بسبب غزة والأسرى لدى حركة حماس. فالتظاهرات التي حصلت نهاية الأسبوع الماضي في إسرائيل كانت من أكبر التظاهرات منذ بدء الحرب، خصوصا في تل أبيب. وجرى تقدير أعداد المشاركين فيها حسب عائلات المحتجزين بأكثر من نصف مليون مشارك، أما في جميع أنحاء إسرائيل فقاربت رقم المليون مشارك، في وقت غابت التقديرات الرسمية الإسرائيلية ما يرجح صحة تقديرات عائلات المحتجزين. أضف الى ذلك إنكماش الإقتصاد الإسرائيلي، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3,5%. وهذه المؤشرات قد تدفع رجلا مسكون بهاجس العظمة وتخطي المكانة التاريخية لمؤسس الكيان الإسرائيلي بن غوريون للإندفاع باتجاه استعادة الحرب في الساحات القريبة مثل لبنان. حيث لنتياهو مشاريع توسعية تحظى بتأييد في الشارع الإسرائيلي.
ووفق ما سبق، فإن الإنزلاق باتجاه خطوات متهورة وغير محسوبة سيشكل كارثة على الجميع، وهو ما يفسر دعوات الرئيس نبيه بري بعدم الخروج من الحكومة أو ضمنا خلق أزمة سياسية، وعدم اللعب بالشارع، لا بالعكس الإحتكام للمؤسسة العسكرية اللبنانية.
صحيح أن الخطاب السياسي متشنج ودقيق وعالي السقف، لكن لا ترجمة فعلية له على أرض الواقع كون الحسابات لا تسمح به، إلا إذا اختار البعض الإنتحار وهذه مسألة أخرى واحتمالاتها ضعيفة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى