
إحتلت القمة الأميركية_الروسية صدارة الإهتمام العالمي، لدرجة أن البعض وضعها في مصاف القمم الأميركية_السوفياتية إبان حقبة الحرب الباردة خلال النصف الثاني من العقد الماضي. وصحيح أن هذا التوصيف فيه شيء من المبالغة، لكنه في الحقيقة له ما يبرره، ومرده الى الدور الروسي المباشر الموجود في العديد من الأزمات الكبرى التي يعاني منها العالم، مثل أوكرانيا والشرق الأوسط.
وكان واضحا أن قمة ألاسكا حملت مؤشرات الى أن ملف الشرق الأوسط لم يكن غائبا، بدليل وجود المكلفين المباشرين بهذا الملف في عداد الوفدين المرافقين. وبنتيجة هذه القمة ساد انطباع دولي بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خرج كمنتصر. وإحدى أبرز نقاط فوزه كانت باعتراف ترامب بفك العزلة الدولية التي كانت تحاصر بوتين وتخنق الإقتصاد الروسي. وقد يكون جون بولتن المسؤول عن الأمن القومي خلال ولاية ترامب الأولى والذي تحول الى عدو لدود له، أفضل من وصف نتيجة لقاء القمة بقوله: بوتين ربح وترامب لم يخسر. لكن من الواضح أن ملفات كثيرة جرى البحث فيها وجرى الإتفاق على إبقائها سرية، وهنا تكمن أهمية قمة ألاسكا. فالمدة القصيرة التي احتاجها المؤتمر الصحفي المشترك يوحي بذلك. لا بل أن بوتين الآتي من عالم الأمن والإستخبارات طلب إغلاق باب الأسئلة وعدم فتح المجال أمام “إستفزازات” المراسلين. فترامب المشهور بأسلوبه الإستعراضي والدعائي قد يقع ويفشي ببعض أسرار القمة أمام إغراء وجاذبية الإعلام المفتوح. وثمة ملاحظة إضافية وتتعلق بالمدة الزمنية السريعة والتي شهدت التحضير للقمة إثر زيارة موفد الرئيس الأميركي ستيف ويتكوف الى موسكو. فسلاسة انعقاد القمة أوحت وكأن بعض الملفات الشائكة جرى ترتيبها والتفاهم حولها قبل أن يطأ الرئيسين أرض ألاسكا.
وخلال الأيام الماضية لم يهتم الإعلام العالمي كثيرا بالسلوك العسكري الروسي الجديد في سوريا. فخلال مرحلة ما بعد سقوط بشار الأسد إنكفأت روسيا عن المشهد السوري الداخلي، وعمدت موسكو الى تجميع قواتها العسكرية في موقعين أساسيين وهما قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية. كما عمدت على نقل العديد من معداتها المتطورة الى خارج سوريا. وسارعت تركيا لملء هذا الفراغ بالتفاهم مع واشنطن، ووفق برنامج عمل يقضي بإخراج كامل نفوذ إيران من سوريا وتفكيك كامل بنيته التحتية. لكن الوقت لم يطل حتى ظهر لواشنطن بأن الطموح التركي أكبر بكثير مما رسمته هي، وبشكل لا تحتمله التركيبات الحساسة للعديد من دول المنطقة. ومن هنا لا بد أن تكون أنقرة تابعت بشيء من الإنزعاج عودة النشاط العسكري الجوي الروسي في منطقة النفوذ الكردي. فلقد عمدت موسكو على تعزيز قواتها في مطار القامشلي وعلى عدة مراحل، شملت إعادة تأهيل لمواقع تمركز طائراتها، وتوسيع أماكن إقامة جنودها وضباطها والتي أضحت في منطقة أكثر تحصينا. وعمدت القوات الروسية وللمرة الأولى منذ سقوط الأسد الى تسيير دوريات وصلت الى ريف مدينة القامشلي. وحصل كل ذلك وسط سكوت أميركي كامل ما يوحي بالموافقة على ما يحصل كي لا نقول بوجود تفاهمات غير معلنة. ومن البديهي الإستنتاج بأن هذه التفاهمات تشمل مساعدة روسيا في منع عودة إيران الى سوريا، وأيضا تشكيل عامل توازن مع تركيا لمنعها من الإنفلاش بأكثر مما هو مطلوب.
وفي الوقت عينه طلبت دمشق من موسكو إعادة الدوريات الروسية الى جنوب سوريا على نحو مشابه لما كانت عليه قبل سقوط نظام الأسد، بهدف لجم الإندفاعة الإسرائيلية جنوبا، وهو ما تؤيده واشنطن ضمنا. فبالتأكيد لم تكن واشنطن راضية بالتظاهرة الدرزية في السويداء والتي جرى فيها رفع الأعلام الدرزية والإسرائيلية، في وقت أعتلت فيه سيدة المنصة لتقول: لا نريد إدارة ذاتية ولا حكما فيديراليا، نريد استقلالا كاملا. وقوبل كلامها بصيحات التأييد والتصفيق الحار. ومن الواضح أن ما حصل كان بترتيب إسرائيلي وحمل رسائل مفية من نتنياهو مفادها أن “تغيير وجه المنطقة” يجب أن يحصل الآن. إلا أن واشنطن التي تعارض التوقيت لا العناوين، تعتقد أن ثمة مراحل لا بد من تحقيقها قبل الوصول الى هذه المرحلة النهائية.
وباختصار فإن الحركة الروسية ترتكز من دون شك على مباركة أميركية، بأن تستعيد روسيا دورها كعامل توازن داخلي بوجه تركيا وإسرائيل على السواء، ولكن من ضمن البرنامج المعروف بإخراج إيران بالكامل من سوريا ولبنان.
قريبا جدا سيقر مجلس الأمن الدولي القرار المتعلق بقوات الطوارىء الدولية العاملة في جنوب لبنان، وحيث لروسيا حضورها كونها إحدى الدول الخمس. صحيح أنه في كل عام كان يسبق قرار التجديد جدلا واسعا، لكن ثمة مفارقة أساسية هذا العام. ففي السنوات الماضية كان الجدل يتمحور حول تفاصيل مهام اليونيفيل، والنقطة الأساسية كانت تتركز حول حرية حركة دورياتها، أما اليوم فالنقاش يتركز حول ما إذا كان هنالك حاجة أصلا لبقاء هذه القوات، وهو ما تثيره واشنطن وتل أبيب. ومن هنا المخرج بقرار التجديد لسنة واحدة وأخيرة. والذريعة المرفوعة ترتكز على قرار حصر السلاح بيد الجيش، والسماح بحرية الحركة لدوريات اليونيفيل، ووصولا الى كل النقاط التي تحتاجها وفق مندرجات القرار 1701. ولا حاجة للتذكير بأن مسودة تدور بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن ومن بينها روسيا والصين. والمقصود من كل ما تقدم بأن ترتيبات كبرى تقودها واشنطن في إعادة رسم الخارطة السياسية الجديدة في المنطقه تساهم فيها روسيا وفق مندرجات لها علاقة بالمصالح الدولية الكبرى. وقد يكون لذلك حرص بوتين الأمني على اختصار المؤتمر الصحفي المشترك منعا لزحطة قد يرتكبها ترامب الإستعراضي.
ووفق كل ما تقدم، فإن إعادة عقارب الساعة الى الوراء أو على الأقل وقفها (وهو ما تحاول أن تفعله إيران) لا يبدو واقعيا. وجاء الإختبار الأوضح في لبنان مع زيارة الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي علي لاريجاني. فاللهجة الحازمة التي قوبل بها من قبل السلطة التي نشأت بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان إنما تعكس قرارا نهائيا في موضوع حصر السلاح بيد الدولة، وأن المسألة ليست مجرد مناورة أو طلقة في الهواء. والرد الإيراني الذي جاء عنيفا وعلى لسان أمين عام حزب الله لم يقترن بأي خطوات تنفيذية لأن الظروف ليست مؤاتية، لا بل أنها تعتبر بمثابة العمل الإنتحاري. فلقد رفع قاسم السقف الى أعلى مستوى ممكن لدرجة لوح فيها باحتمال اندلاع الحرب الأهلية. واعتبر كثيرون أن مفرداته التصعيدية لم تكن موفقة، لا بل أنها أدت الى عكس المرجو. فدعوته لخوض “حرب كربلائية” ربما بهدف شد العصب الشيعي الى الحد الأقصى، أدى في الوقت عينه الى إثارة حساسية عالية لدى الشارع السني، ما أدى لصدور مواقف غاضبة. في الواقع استبق حزب الله خطاب أمينه العام بحملة تعبوية وإعلامية من خلال توزيع فيديوهات تستحضر العمليات العسكرية التي حصلت في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، أضافة الى مقاطع خطابية منتقاة بعناية للسيد حسن نصرالله. وأريد من ذلك المزج بين التلويح بالقوة وإثارة العاطفة المفرطة. ولا شك أن الحملة نجحت في أداء غرضها في الوسط الشيعي، لكن “تسييلها” الى أرض الواقع لا يبدو عمليا. لا بل على العكس يبدو كارثيا.
وللمفارقة فإن شيئا مشابها يحصل في العراق، حيث جددت كتائب حزب الله العراقية تمسكها بسلاح المقاومة “لردع المعتدين ونصرة المظلومين”، ودعت الى دعم ترسانتها بالأسلحة المتطورة، وتعزيز إمكاناتها لمواجهة أي تهديد. وجاء ذلك ردا على دعوة رئيس الحكومة بحصر السلاح بيد الدولة. والعراق هو الساحة الموازية للساحة اللبنانية والتي تواجه خطة إقصاء النفوذ الإيراني عنها. لكن المعادلة الدولية لا تبدو مؤاتية لإيران التي تعمل على إزالة آثار ونتائج الحرب عنها، والمتمسكة بمبدأ تخصيب اليورانيوم المحرم دوليا، قبيل انطلاق مفاوضات جديدة مع الأميركيين.
وبالأمس إهتم بعض الأطراف بكلام عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب إبراهيم الموسوي لقناة الجزيرة بأن حصر السلاح بيد الدولة “أمر ممكن من حيث المبدأ”، لكنه شدد على نزع السلاح مختلف تماما ويعد طرح غير واقعي. ولا شك أن هنالك تعمد بأن يكون كلام الموسوي “حمال أوجه”. مرة لامتصاص ردات الفعل السلبية على كلام قاسم، ومرة أخرى للإيحاء بالإستعداد للبحث بمخارج معقولة. لكن هنالك من لم يجد جديدا بهذا الموقف، لا بل أنه رأى فيه دعوة مبطنة لإقرار الهيكلية العسكرية لحزب الله كجسم عسكري مستقل ولكن تحت إمرة السلطة اللبناني بعد إدخال تعديلات على نظامها الدستوري. وهو ما يشبه ما هو جاري العمل عليه للحشد الشعبي في العراق. وهو ما يلاقي رفضا داخليا على مستوى باقي المكونات، وإقليميا باستثناء أيران، ودوليا بما فيه روسيا.
يباشر اليوم الموفد الرئاسي الأميركي توم براك جولته الرابعة الى لبنان والأولى بعد قرار الحكومة اللبنانية. ومن المنطقي الإعتقاد بأن الموفد الأميركي والذي ترافقه مورغان أورتيغوس المثيرة للجدل، سيبحث في مرحلة تطبيق القرار المتخذ. وفي وقت جرى فيه سابقا تسريب طلب إيران عبر قطر إعادة ترتيب برنامج زمني أكثر مرونة، جزمت مصادر معنية بأن لا براك ولا وزارة الخارجية الأميركية عمدا للتمهيد للجولة بالإيجاز الديبلوماسي الذي يعتمد عادة والذي يستبق الجولة. وهو ما يعطي الإنطباع بأن براك يحمل أفكارا جديدة يريد أن يفاجىء بها الجميع. ولا حاجة للإشارة بأن هذه الأفكار الجديدة قد تكون مستوحاة من التفاهمات المستجدة بين واشنطن وموسكو.