مقالات صحفية

“تقاطعات عدة بين بيروت وبغداد” بقلم الكاتب السياسي جوني منيّر

تحظى الزيارة الأولى لعلي لاريجاني الى بيروت بعد تعيينه أمينا للمجلس الأعلى للأمن القومي بأهمية خاصة. فهي تأتي وسط التحديات الهائلة التي تواجه خارطة النفوذ الإقليمي لإيران بعد النتائج التي رست عليها الحروب في المنطقة التي عرفت خلال العقدين الأخيرين بالهلال الشيعي. وأبرز هذه التحديات بعد سقوط نظام الأسد في سوريا واستهداف البرنامج النووي الإيراني يتركز في كل من لبنان والعراق. وتوقيت الزيارة يستبق إعادة إحياء المفاوضات بين واشنطن وطهران ولكن وفق موازين قوة مختلفة هذه المرة.
في الأساس جاء اختيار لاريجاني لتبوء هذا الموقع الحساس بمثابة مؤشر إيراني ينحو باتجاه التفاوض والمرونة وليس المواجهة والتحدي. تكفي الإشارة الى التعريف الذي بات يسود عن المسؤول الإيراني في الأوساط الديبلوماسية والإعلامية لاستشراف السلوك الذي ترغب القيادة الإيرانية في اتباعه في هذه المرحلة التي تؤسس لحقبة جديدة في المنطقة. فهو من أبرز الشخصيات القادرة على الجمع بين التوجهات المتباينة داخل الساحة الإيرانية، لدرجة أصطلح بالتعريف عنه بأنه “يساري اليمينيين، ويميني اليساريين”، أو كما يوصف أحيانا بإصلاحي المحافظين الأصوليين ومحافظ الأصوليين لدى الإصلاحيين. إذا هي شخصية مرنة في أسلوبها وتحمل في الوقت نفسه الثوابت السياسية للعقيدة الدينية. وهو ما يدعو للإستنتاج بأن إيران تميل باتجاه المرونة ولكن من دون أن يعني ذلك بالضرورة التخلي عن أوراقها الأساسية. وقبل انطلاق لاريجاني في جولته الأولى بعد توليه مهامه الجديدة باتجاه بغداد وبيروت سادت همسات في الكواليس الديبلوماسية بأن طهران طلبت وساطة قطر بهدف تعديل البرنامج الزمني الذي وضعته الحكومة اللبنانية ضمن إطار قرارها بحصر السلاح بيدها. ووفق التسريبات فهي طلبت تعديل البرنامج الزمني لإعطاء الوقت الكافي لمناقشة ملف السلاح. وتزامن ذلك مع عودة اهتمام قطر بالشأن اللبناني بعد انكفاء بدأ منذ حصول الإنتخابات الرئاسية اللبنانية، وذلك من خلال الإعلان عن زيارة وفد لها الى لبنان والذي حمل مشاريع الدعم وضخ الأموال لإعادة الإعمار، خصوصا وأن قطر تتمتع بعلاقات قوية مع مختلف الأطراف اللبنانية. وتحريك طهران لوساطتها من خلف الستارة تمهيدا لزيارة لاريجاني تؤشر بوضوح الى أن القيادة الإيرانية باتت تدرك بأن قرار الحكومة اللبنانية والذي يحظى بدعم أميركي وخارجي كبير لا يمكن العودة عنه بسهولة، كون ذلك سيعني سقوط كامل المشروع الجديد الجاري تثبيته في لبنان. وجل ما يمكن تحقيقه هو إما كسب الوقت بانتظار مفاجآت يمكن أن تقلب المشهد، أو إفساح الوقت لتفاوض صعب حول بعض الأثمان، وهو الهدف الفعلي لمهمة لاريجاني. وهنا يأتي السؤال حول حقيقة الأثمان التي تطلبها طهران في لبنان. وطالما أن هنالك أوجه شبه عدة ما بين لبنان والعراق، فإن إلقاء نظرة سريعة على المستجدات هناك يمكن أن تساعد على تقديم الجواب المطلوب في لبنان.
ففي زيارته العراقية عمل لاريجاني على توجيه رسائل تهدئة بين كتائب حزب الله ورئيس الحكومة خشية حصول مواجهة بين هذه الفصائل والحكومة في ظروف غير ملائمة بتاتا، خصوصا وأن الفصائل الموالية لإيران ترفض الإنصياع لقرارات السوداني. ويأتي ذلك بعد فشل المجموعات الموالية لإيران في إقرار قانون الحشد الشعبي. وكما لبنان فإن زيارة لاريجاني تزامنت مع حراك الحكومة العراقية ضد فصائل مسلحة موالية لإيران، وحيث أقال السوداني قيادات في الحشد الشعبي ومشددا على ضرورة حصر السلاح بيد الدولة. لكنه جرى التوقيع خلال الزيارة على مذكرة تفاهم أمني مشترك تتعلق بالتنسيق الأمني الحدودي بين البلدين، وسط تعهد عراقي بمنع أي اختراق حدودي الى دول الجوار. وهو ما اعتبر مطلب إيراني دفاعي بعد أن كان سلوكها ذات طابع هجومي في السابق. لكن الجانب الأهم ما سربته الأوساط الديبلوماسية الغربية بأن إدارة ترامب أرسلت الى بغداد طلبا بضرورة التخلص من السلاح النوعي الموجود لدى الحشد الشعبي والفصائل الموالية لإيران، مثل الصواريخ البالستية والدقيقة والمسيرات المتطورة، على اعتبارها تهديد أمني لدول الجوار، والمقصود هنا إسرائيل طبعا، والقاعد العسكرية الأميركية. وكذلك إقفال قسم التصنيع الحربي التابع للحشد الشعبي. وأنهت واشنطن رسالتها بأنه في حال الرفض فستعمد إسرائيل الى تدميرها من خلال حملات جوية. وكان متوقعا أن ترفض الفصائل الموالية لإيران هذه المطالب. وهذا ما دفع بالحكومة العراقية لإبداء خشيتها من حصول توترات داخلية بسبب رفض هذه المطالب، واحتمال تطورها الى مشاكل ومواجهات أمنية وطائفية. وهنا تصبح خلفية الإتفاقية التي جرى توقيعها أكثر وضوحا. ويصبح الإنطباع أوضح بأن الفصائل الموالية لإيران لا تبدو في وارد القبول بما هو مطروح، ولو أن المرحلة الحالية وظروفها تتطلبان المرونة الشكلية وتدوير الزوايا. لكن وفي الوقت نفسه تبدو واشنطن المصممة على تحقيق مطالبها ليست في وارد القبول بأثمان كمثل “قانون الحشد الشعبي”. أو كما تقول أوساط ديبلوماسية بأن واشنطن ليست في وارد القبول بتغيير الأنظمة القائمة ولو بطريقة التحايل، وتقديمها على طبق من فضة الى إيران. لذلك باشرت إدارة ترامب في تشديد ضغوطها المالية والإقتصادية، وهو ما أدى الى تأخر رواتب حوالي 200 ألف منضوي في الحشد الشعبي للمرة الأولى منذ قيامه، بسبب إنذار أميركي للشركة المالية التي تتولى دفع الرواتب. ولكن المواجهة الأكبر تنتظر الإنتخابات البرلمانية العراقية بعد حوالي ثلاثة أشهر من الآن، في وقت تسعى فيه إيران للحفاظ على مصالحها وتأثيرها الكبير، في مقابل رهان أميركي على إضعاف تأثيرها داخل البرلمان بمساعدة سعودية، تمهيدا لتوازنات حكومية جديدة.
وبالإنتقال الى لبنان فإن بعض جوانب المشهد يصبح أكثر وضوحا. فالظروف لا تسمح بمواجهات سياسية أو عسكرية. وهذا ما ينطبق فعلا على رد فعل حزب الله إثر صدور قرار الحكومة حول السلاح. فلا استقالة من الحكومة، ولا مواجهة في الشارع، واقتصار الأمر على تظاهرات محدودة ومتنقلة للدراجات النارية. ولكن المطلوب إفراد مساحة كافية من الوقت للدخول في نقاش معمق، يقول أنه يحمل عنوان الإستراتيجية الدفاعية، أو البحث في سبل “تعزيز” القدرة الدفاعية للدولة اللبنانية وقدراتها العسكرية. ومن هنا يستشف البعض أن المقصود إنشاء كيان عسكري شرعي للفصائل العسكرية لحزب الله بما يشبه قانون الحشد الشعبي المقترح في العراق. أي طالما أن مؤسسات الدولة العسكرية ستكون عاجزة عن استيعاب عشرات الألوف من مقاتلي حزب الله دفعة واحدة، فإنه من الأفضل إنشاء كيان عسكري مستقل ولو أنه يتبع للحكومة اللبنانية ولكن بعد إجراء التعديلات الدسستورية الملائمة. وهو ما سيعتبر أيضا تعديلا لنظام “الطائف” القائم، والذهاب الى واقعةدستوري آخر. ولا يبدو أن هذا الإقتراح يحظى بموافقة أيا من المجموعات اللبنانية، ولا أيضا أيا من القوى الخارجية أكانت إقليمية أم دولية.
لا بل فإن التصور الدولي المطروح، يقوم على سحب لبنان من تحت المظلة الإيرانية وفق برنامج من نقاط ثلاث:
1_ الإستفادة من الخطوات التي نجحت السلطة اللبنانية في تحقيقها حتى الآن، والعمل على تحصينها وتعزيزها، لاسيما وأن الإنتخابات النيابية تعتبر بمثابة امتحان جدي في هذا الإطار.
2_ تأمين المزيد من التمويل والمساعدات لدعم قطاعات الخدمات الرئيسية وتعزيز الجيش بشكل جدي وترميم ما أمكن من البنية التحتية المتهالكة. ويحكى هنا عن مساعدة المليار دولار للقوى المسلحة اللبنانية والتي قد يحملها الموفد الرئاسي الأميركي السفير توم براك خلال زيارته المقبلة الى بيروت.
3_ حث وتشجيع الدول الخليجية للعمل في هذا الإتجاه، إن ماليا أو سياسيا عبر إيلاء المجموعات اللبنانية الرعاية الكافية، خصوصا على أبواب الإنتخابات النيابية.
ما من شك أن الولايات المتحدة الأمريكية ما تزال منخرطة في مشروع بناء واقع جديد في الشرق الأوسط، وتحويل النتائج العسكرية للحروب التي دارت الى مكاسب استراتيجية. أي إدخال المنطقة في حقبة جديدة، ترتكز معادلتها على تراجعوالنفوذ الإيراني، ورحيل نظام بشار الأسد، وقيام واقع لبناني جديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى