مقالات صحفية

خطر الإغتيالات من جديد؟

موقف مستشار مرشد الثورة الإيرانية للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي، والقائل برفض إيران لقرار الحكومة الحكومة اللبنانية بنزع سلاح حزب الله، شكل أول دخول رسمي إيراني وبشكل علني على خط الصراع الحاد الحاصل في لبنان. وفي وقت إستغرب فيه البعض هذا الدخول الإيراني الصريح والغاية الحقيقية منه، فإن البعض الآخر إعتبره “زحطة” كونه كشف بوضوح المرجعية الفعلية لهذا السلاح، في وقت كان حزب الله وطوال المراحل الماضية يثابر على مرجعيته وحده على هذا السلاح، وذلك ردا على حملات واتهامات خصومه. لكن ومع شيء من التدقيق فإن كلام ولايتي لم يكن “زحطة” أو سوء تقدير وهو أيضا لم يكن موجها الى الداخل اللبناني بقدر ما كان رسالة إيرانية صريحة الى واشنطن.

فكلام وزير الخارجية الإيراني الأسبق جاء في سياق مقابلة طويلة شملت المستجدات في أذربيجان والعراق ولبنان، والتي تدخل في إطار الترتيب الجديد الذي تندفع الإدارة الأميركية على ترسيخه في المنطقة إثر النتائج العسكرية للحروب التي طالتها، وفي إطار استعداد طهران للعودة الى مفاوضات مع واشنطن وسط معارضة الجناح المتشدد في طهران. وبات جليا أن إدارة ترامب تعمل على إعادة تشكيل موازين القوى في المنطقه، في وقت تبدو فيه إيران محشورة بالوقت. في الماضي شكل عامل الوقت ورقة قوة للسياسة الخارجية الإيرانية. أما اليوم فتبدو الظروف مختلفة بسبب الضغوط الأميركية المتلاحقة، ما يجعل عامل الإنتظار محكوما بمهلة زمنية ومحفوفا بالمخاطر. باختصار فإن طهران تبدو على سباق مع الوقت. وقد يكون كلام ولايتي كشف الترابط القائم بين ساحات المنطقة. فهو قال حرفيا بأن إيران والعراق سيرفضان نزع سلاح حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق. وجاء ذلك بعد أن استفاض في إبداء معارضة بلاده لإنشاء “ممر زنغزور” والذي يربط بين أذربيجان وتركيا، ومعللا رفض بلاده بأنه يؤدي الى تغيير الخريطة الجيوسياسية في المنطقة.
فخلال الأيام الماضية نجح الرئيس الأميركي في تحقيق تفاهم بين أذربيجان وأرمينيا، نتج عنه التوقيع على اتفاق بين الرئيس الأذربيجاني ورئيس الحكومة الأرمنية حمل عنوان “إطار عمل لتحقيق السلام” وذلك في العاصمة الأميركية. ووصفت هذه الخطوة بأنها ضربة معلم لترامب الذي عانى منذ عودته الى البيت الأبيض من سلسلة خطوات فاشلة على الساحة العالمية. وقد أحيطت المفاوضات بين أذربيجان وأرمينيا بالسرية المطلقة نظرا لحساسيتها، ولأنها تساهم في عزل إيران وإظهار قدرة واشنطن على اختراق منطقة القوقاز على حساب النفوذ الروسي. ولذلك بدت إيران الخاسر الأكبر من إنشاء ممر “زينغروز”، لاسيما بعد النتائج التي أفضت إليها حروب المنطقة والضربة القوية لبرنامجها النووي. وإثر التوقيع على الإتفاق ظهر واقع جيوسياسي جديد في جنوب القوقاز، تمسك بناصيته واشنطن، ويحظى بمباركة العديد من دول المنطقة، وبغض نظر روسي في ظل انهماك موسكو بالحرب الدائرة في أوكرانيا منذ 2022. فالممر يوفر رابطا جديدا بين باكو وأنقرة، ما يسمح بنقل البضائع بينهما دون الحاجة للمرور عبر إيران وروسيا. وهو أيضا يؤشر لدور تصاعدي لأذربيجان في المنطقة، مع الإشارة هنا الى قرار باكو بضخ الغاز الى سوريا بتمويل قطري.
وتردد سابقا أن إيران التي اشتهرت بسياسة النفس الطويل، وبقدرتها على تطويع الضربات التي تتلقاها لإعادة تعزيز نفوذها من جديد، كانت تعمل لاستعادة حضورها في سوريا، والتي شكل سقوط نظام الأسد فيها لضربة قوية وقاسية لمشروعها الإقليمي. لذلك تردد كثيرا أن طهران حاولت التسلل الى سوريا من جديد مستغلة التباينات الكثيرة الموجودة بين الفصائل التي ساندت أحمد الشرع. وجرى إدراج أحداث الساحل السوري في هذا السياق، والتي انتهت بقمع دموي وسط صمت دولي. لكن طهران التي استمرت بالبحث عن ممرات برية سرية لإيصال السلاح الى حزب الله، جلست تراقب الخلافات والتباينات الكثيرة التي أحاطت بمكونات السلطة الجديدة في دمشق. وقيل أن طهران بقيت تراهن على انفجار سوري داخلي يؤدي الى سقوط سلطة الشرع أو في أحسن الأحوال نشر الفوضى، ما سيسمح لها حتما بالتسلل من جديد الى داخل النسيج السوري الممزق والتقاط أوراق جديدة. ولكن عامل الوقت هو الأهم بالنسبة لطهران. فهي تدرك أن الأفق لم يعد مفتوحا أمامها، لاسيما بعد الضربة التي تلقتها، ووسط رفع مستوى الضغوط الأميركية عليها. فالحد الزمني الأقصى أمامها لا يتجاوز نهاية العام الحالي، في وقت تحتاج فيه لفترة زمنية لا تقل عن السنة للبدء بإعادة ترتيب أوضاعها. ومن هنا يمكن تفسير هذه التقديمات الإقتصادية السخية لدمشق، لتحصين سلطة الشرع ومنعها من السقوط أقله لفترة سنة أو سنتين. ومن هنا أيضا غضب البيت الأبيض من أحداث السويداء، منعا لإضعاف سلطة دمشق أكثر، وليس أبدا رفضا لخارطة سياسية جديدة في سوريا ترتكز على الإدارات المحلية تمهيدا للتجزئة مستقبلا. فالمشكلة هي في التوقيت وليس في الأهداف. ولذلك جرى إنهاء أحداث السويداء على قاعدة “لا يموت الديب ولا يفنى الغنم”. وإلا فكيف يمكن تفسير مؤتمر الحسكة والذي نظمته الإدارة الذاتية الكردية والذي شارك فيه ممثلون عن الدروز والعلويين، والذي خلص الى المطالبة بدولة لامركزية وعلمانية وديمقراطية، والذي اعتبرته دمشق ضربة لجهود التفاوض الجارية؟. ومع الإشارة هنا الى إنشاء “مكتب تنفيذي” لإدارة شؤون محافظة السويداء غير مرتبط بدمشق، وهو ما أدرجه البعض في إطار التأسيس للإدارة الذاتية. مع الإشارة الى نقطة بغاية الأهمية بأن الإدارات المحلية تشكل عائقا أمام “جموح” تركيا لبسط نفوذها على كامل المساحة السورية عبر دمشق، وليس على وسط سوريا فقط. لكن لهذا الجانب بحث آخر. فالوقت الآن هو لمنع اهتزاز سلطة الشرع قبل إنجاز الإتفاق مع طهران.
وفي الزاوية الأخرى للصورة، والمقصود هنا الزاوية العراقية، سعى الحشد الشعبي لقوننة وشرعنة وجوده. لكنه جرى إسقاط القانون بدعم أميركي واضح. وتزامن ذلك مع صدور قرار الحكومة اللبنانية حول سلاح حزب الله. وهو ما يدفع للإستنتاج بأن واشنطن ومعها عواصم الخليج العربي، تعمل على ترجمة المشروع الجديد للمنطقة. أي إخراج نفوذ إيران من لبنان والعراق ومنع شرعنته بعدما تحقق ذلك في سوريا. ألم يكن لافتا ومعبرا ما ردده ولايتي في المقابلةنفسها بأن بلاده لن تسمح بتنصيب “جولاني” آخر في لبنان؟.
ولأن المسألة ترتكز على إعادة تشكيل موازين القوى وخارطة النفوذ السياسي في المنطقة، فإن طهران تخشى من أن ينعكس نجاح قرار حصر السلاح في لبنان على الوضع في العراق أيضا. وبالتالي أن يؤدي لإعطاء دفعا قويا لحكومة بغداد. ألم يتحدث رئيس الحكومة العراقية عن تمسكه بعدم وجود سلاح خارج إطار الدولةالعراقية؟. ومن المسلم به أن حزب الله والحشد الشعبي يمثلان قوتين رئيسيتين متحالفتين مع إيران في المنطقة التي اصطلح على تسميتها خلال المرحلة الماضية بالهلال الشيعي.
وفي خطوة ليست بعيدة عن شد الحبال الحاصل، تحدثت أوساط ديبلوماسية عن أن واشنطن تشتبه بانخراط جهات عراقية في تهريب النفط الإيراني الخاضع للعقوبات، وهو ما يشكل ملفا ضاغطا على حكومة السوداني، كون ذلك يساعد طهران على الإلتفاف على العقوبات والحصول على العملة الصعبة. وهو ما يندرج في إطار شد الخناق أكثر على طهران التي ضاقت خياراتها وباتت ملزمة بالذهاب الى مفاوضات صعبة مع واشنطن، وهي لا تمسك بيدها بالكثير من أوراق القوة. ومن هنا أيضا معارضة المتشددين (رغم تراجع قوتهم الداخلية) لمفاوضات مع الأميركيين، ما دفع بالرئيس الإيراني مسعود بزشكيان للتبرير بأن الحوار لا يعني الهزيمة أو الإستسلام، لكنه أضاف بأن بلاده لن تتفاوض أبدا حول مبدأ التخصيب.
ووفق العرض الذي سبق، يبدو المشهد أكثر وضوحا في لبنان. فقرار الحكومة لم تنتج عنه انعكاسات خطيرة تؤدي لضرب استمراريتها ولا لهز الإستقرار الأمني. وبقيت ردود الفعل في إطار تظاهرات للدراجات النارية وضمن مساحة مدروسة، ذلك أن الوقت والظرف لا يسمحان لطهران برفع مستوى الإعتراض والشغب، لا في لبنان ولا في العراق ولا في كامل أرجاء المنطقة.
في لبنان بدأ العمل على وضع الخطط العسكرية لترجمة سبل تنفيذ قرار الحكومة. وفي الوقت نفسه بدأ قصر بعبدا إتصالاته الخارجية لتأمين ظروف عقد مؤتمر إعادة الإعمار، وفق ما كان الرئيس الفرنسي قد وعد. ولا بد أن يتصدر هذا الملف مباحثات الزوار الدوليين الى بيروت بدءا من الموفد الرئاسي الأميركي توم براك إضافة الى موفدين فرنسيين. لكن الأولوية القصوى تبقى لصيانة الإستقرار الداخلي وسط قلق المراقبين من ظهور سلاح الإغتيالات من جديد، خصوصا مع انسداد الأفق أمام الشغب على المستويين الأمني في الشارع والسياسي المتعلق بعدم هز بنيان السلطة الذي قام وفق معادلة داخلية وإقليمية جديدة. هنا يصبح سلاح الإغتيلات واردا كسبيل وحيد، ولو أن ان نتائجه ستكون باهظة الثمن بما يشبه ما تلا إغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005.
وقد يكون وليد جنبلاط قد اختصر كامل المشهد بترداده أمس في اللقاء الدرزي القول المأثور: عند تغيير الدول إحفظ رأسك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى