
تتكدس الغيوم السوداء من جديد في السماء اللبنانية، لتنبىء بعاصفة قريبة في الأشهر المقبلة. فالتناقضات في مصالح القوى الإقليمية ما تزال قائمة، ولو أن نتائج الحروب والمواجهات الميدانية التي حصلت أدت الى تبدلات كبرى، لكنها لم تترسخ بالشكل الكافي، وسط رهان إيراني على الوقت، وإصرار إسرائيلي على قلب المعادلة نهائيا، وطموح تركي باستغلال الوضع وملء المساحات الفارغة.
يدور نقاش داخل دوائر صناعة القرار الأميركي في واشنطن، يتصف بالحدية في بعض أوجهه، ويطال كيفية ترسيخ المعادلة الجديدة في الشرق الأوسط، ولكن من دون المساس بالخطوط الحمر للإستراتيجية الأميركية العريضة. والمقصود هنا على سبيل المثال نسف ركائز النفوذ الإيراني الإقليمي ولكن من دون تعريض النظام الديني القائم لخطر سقوطه. ولا حاجة للقول بأن لبنان يدخل في صلب هذا النقاش. فهنالك من يخشى أن تعيد إيران بناء شبكة نفوذها عبر العودة الى أسلوبها المعروف أو نمطها التقليدي. والمقصود هنا عبر تشجيع حالات الفوضى ونمو الجماعات المتطرفة ما سيفتح الأبواب أمام عودة الدور الإيراني للمساعدة في ضبط الفوضى الإقليمية، بعد أن أضحت خلال المرحلة السابقة عامل تهديد إقليمي بسبب تمدد نفوذها وقدراتها الى مستويات كبيرة. ووفق أصحاب هذا التوجه والذي يدعمه اللوبي اليهودي بقوة، فإن نافذة التحولات التي حصلت قد لا تبقى مفتوحة طويلا. وبالتالي لا بد من استغلال الفرصة التي ما تزال متاحة لتقويض ركائز النفوذ الإقليمي لإيران بشكل كامل وجذري، خصوصا وأن الأحداث التاريخية تؤكد بأن باب الفرص في الشرق الأوسط يغلق بالسرعة نفسها الذي يفتح فيه. خصوصا وأن الرئيس التركي يندفع برشاقة وخطى سريعة لاغتنام الفرص المفتوحة بهدف توسيع نفوذه الإقليمي. فهو من جهة عامل مساعد لتصفية النفوذ الإيراني، ومن حهة أخرى لا بد من رسم حدود لإنفلاشه الإقليمي كي لا تشكل تركيا مستقبلا خطرا كالذي شكلته إيران خلال العقدين الماضيين.
ووفق آخر أستطلاعات الرأي الأميركية والتي أجرتها مجلة الإيكونوميست ظهر المزيد من التراجع في الشارع الأميركي ضد ترامب. فلقد أعرب 55% من الأميركيين عدم رضاهم على أداء ترامب في مقابل 41% لصالحه فقط. والأهم أن التحول الأبرز سجل على مستوى شريحة المستقلين والتي سجلت تراجعا في تأييدها من 41% عم بداية ولايته الثانية الى 29% فقط الأسبوع الماضي. وهو ما يزيد من الضغط على إدارة ترامب لتحقيق إنجازا دوليا كبيرا وبمستوى الوعود الإنتخابية لترامب بعد فشلين كبيرين إن في أوكرانيا أو حتى في غزة. وبما أن الضربة الأميركية على إيران حققت صدى داخليا كبيرا، فهذا يدفع بإدارة ترامب للرضوخ أكثر لوجهة النظر الإسرائيلية. ولبنان يشكل ساحة عمليات أساسية.
من هنا تنحو إدارة ترامب لعدم التساهل مع الدور العسكري لحزب الله إضافة لامتداداته الرديفة، والمقصود هنا حركتي حماس والجهاد الإسلامي وتنظيمات أخرى متشددة تتعاون عسكريا مع التركيبتين العسكرية والأمنية للحزب. والأهم هو الفاصل الزمني الضيق تجنبا لتبدل الأوضاع والظروف.
ولا تتردد أوساط أميركية معنية في واشنطن من السخرية من طريقة التسريب الإعلامية لورقة الجواب الأميركية، عبر إبراز الجانب الإيجابي فقط والسعي لإخفاء البنود الأساسية المطلوبة. فهذه أساليب لم تعد موجودة، وأكل عليها الزمن وشرب. فوفق هذه المصادر فإن القرار الأميركي متخذ بإنهاء السلاح الثقيل الموجود لدى حزب الله، إما عبر التفاهم أو من خلال ترك إسرائيل تتولى الأمر. وتحدد المصادر نفسها فصل الخريف كموعد زمني حاسم أمام الشروع بالتنفيذ إما طوعا أو بالقوة، ولو أنها باتت تميل أكثر الى الحل “العنفي”. وبالمناسبة فهي تقول بأنها تمتلك معلومات تؤكد بأن إيران ومعها حزب الله حسما أمرهما بالمواجهة العسكرية وبعدم التجاوب مع الأوراق المطروحة، وهما يتحضران لها.
وفي المقابل تتجهز إسرائيل للمواجهة القادمة. فهي تدرك مدى الصدمة التي أحدثتها إن في داخل إيران أو على مستوى القوى المتحالفة معها حول مدى الخروقات الأمنية الواسعة التي نجحت بتحقيقها داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية في إيران. وبالتالي فهي تدرك جيدا أن طهران بحاجة ماسة لبعض الوقت، ليس فقط لإيجاد ظروف جديدة تسمح بإعادة بناء قدراتها الإقليمية، لكن خصوصا للعمل على معالجة الفجوات الأمنية الداخلية وإعادة ترميم قدراتها العسكرية. وهي النقطة التي لا تربد إسرائيل منحها لإيران، ما يجعل عامل الوقت مسألة بغاية الأهمية. وفيما تصاعد مستويات العنف والفوضى والدماء في سوريا وحيث تسعى كل من القوى الإقليمية الثلاث إسرائيل وإيران وتركيا لتوظيفها في مشروعها الإقليمي، يجري تحضير الظروف للخريف اللبناني العاصف.
ويتحضر حزب الله للمواجهة المقبلة وسط معرفته بظروفه الصعبة، ولو أنه لا يقر بذلك علنا، وهذا منطقي ومفهوم. ففي كواليسه قناعة عززتها إيران، بأنه حتى لو جرى تسليم السلاح الثقيل الآن، فلا تل أبيب ولا حتى واشنطن ستكتفيان بذلك. لا بل ستذهبان لتصفية كامل تركيبة حزب الله لاحقا وبعد أن يكون الحزب قد أصبح أعزلا بالكامل. وبالتالي فإن الحل الأفضل يصبح بالقتال ولو أن الظروف تنبىء بنتائج صعبة.
وتبدأ الحسابات الصعبة من الواقع المالي المأزوم. فالحنفية المغلقة فرضت على قيادة الحزب البدء ببرنامج تقنين قاس. ويحكى عن “مساعدات” نقدية كانت تمنح لمجموعات تعتبر من الإحتياط جرى وقفها، إضافة لتقديمات أخرى. أضف الى ذلك أن البيئة التي تراجعت آمالها بإعادة إعمار منازلها وقراها باتت قلقة من أي استهدافات جوية جديدة لأن من يخسر منزله بات قلقا من فقدانه الى الأبد.
أما المصاعب الإضافية فتتراوح بين فقدان دائرة الحماية السياسية الداخلية بعد تبدل التوازنات الداخلية ووصولا الى وجود سلطة أعلنت صراحة بأنها لن تقبل باستمرار أي سلاح غير شرعي.
وحتى على المستوى العسكري ثمة حسابات ليست بسهلة. صحيح أنه خلال الحرب الأخيرة أظهر مقاتلو حزب الله بأسا كبيرا وشجاعة واضحة في قتالهم لوقف التوغل الإسرائيلي، إلا أن الترجيحات والفرضيات تتحدث عن أساليب جديدة. فالواضح أن الحرب الجوية لا تؤدي لتبديل المعادلات القائمة ميدانيا. من هنا الكلام عن حضور ميداني مختلف، كمثل حصول إنزالات جوية تؤدي الى قطع أوصال الترابط بين مناطق نفوذ حزب الله، عند الطريق الساحلية التي تربط الضاحية بالجنوب، وعند الطريق التي تربط ما بين البقاع الشمالي بالغربي، وبينهما وبين الضاحية.
لكن السيناريو الأخطر والذي لا بد أنه يقلق حزب الله هو التحشيد الذي يحصل ولو بالتدرج من قبل القوات السورية عند الحدود المتاخمة للبقاع الشمالي. ذلك أن إحدى المهام المطلوبة من دمشق القضاء على نفوذ إيران في سوريا، والمساعدة على ذلك في لبنان.
ولا شك بأن هذه الصورة سوداوية وتفتح احتمالات دفع الداخل اللبناني الى الفوضى، وعلى سبيل خلط الحابل بالنابل. لكن الرهان هنا على دور الجيش اللبناني. ولفت في هذا الإطار موافقة وزارة الخارجية الأميركية على عقد بيع خدمات الصيانة وقطع الغيار والتدريب الفني لطائرات السوبر توكانو والمخصصة للهجوم والإستطلاع ولحروب العصابات، وبقيمة مئة مليون دولار ستدفعها واشنطن بالكامل. وبالمناسبة فإنه تبرز هنا من جديد ومرة إضافية قصر نظر بعض الأطراف والذي يعتمد خطابات غرائزية لأهداف ضيقة وانتخابية وتؤدي لمحاصرة الجيش والسلطة القائمة، في وقت لا بد من جانب من المسؤولية وبعد النظر، خصوصا وأن تجارب الماضي غنية بالمحطات المأسوية.
وخلافا لما يعتقده البعض فإن الموعد الصعب لن يتأخر كثيرا وحده الأقصى نهاية العام. ذلك أن الإنتخابات النيابية تشكل محطة يجب أن تؤدي لترسيخ واقع سياسي بمفهوم إقليمي جديد، خصوصا وأن المجلس النيابي هو البنية التحتية للنظام السياسي في لبنان.
لكن هل هذه الصورة السوداوية حتمية؟ بالنأكيد لا، في حال تيقنا من حجم المخاطر الجدية المفتوحة، وفي حال قدمت واشنطن في المقابل ضمانات أمنية جدية وثابتة.
ولا حاجة لتكرار مقولة أنه عند تغيير الدول إحفظ رأسك، ونحن في قلب تغيير كامل الشرق الأوسط.