
لا جدال بأن مبعوث الرئيس الأميركي السفير توم براك هو نجم المرحلة الحالية، ليس فقط على المستوى اللبناني بل أيضا على مستوى المنطقة المحيطة والتي عرفت بالهلال الخصيب، أو كما عرف عنها ملك الأردن بالهلال الشيعي. ودشن براك دخوله المثير الى الملفات المعقدة وشديدة الحساسية للمنطقة بتغريدته الشهيرة حول “وفاة” خارطة سايكس بيكو.
وإثر زيارته الأخيرة الى بيروت والتي حملت مهمة واضحة تتعلق بالإسراع بنزع السلاح الثقيل لحزب الله، أجرى الموفد الرئاسي الأميركي جلسة نقاش مفتوحة مع إعلاميين عرب في نيويورك. ولأنه لم يكن مدرجا حصول لقاء من هذا النوع، فإن الإنطباع الغالب هو بأن براك أراد إستلحاق مهمته وسد فجوة ظهرت لاحقا على ما يبدو، عبر تعابير أوضح. فاللغة الديبلوماسية التي استخدمها والمرفقة بتعابير هادئة ومرنة، ولدت إنطباعا عاما خاطئا عملت أوساط سياسية على الترويج له، وفحواه بأن إدارة ترامب تتجه لسياسة أكثر مرونة وتسامحا تجاه سلاح حزب الله، والمقصود به هنا النفوذ الإيراني في لبنان. أضف الى ذلك حديثه عن الفصل بين الجناحين السياسي والعسكري لحزب الله وسط تسريبات إعلامية أعقبت مغادرته بيروت بتوجيهه رسائل الى قيادة حزب الله، ووفق مبدأ الإستعداد للتفاوض حول أثمان سياسية مقابل السلاح. لكن براك بدل أن “يكحلها عماها” كما يقال في اللغة اللبناني العامية. وهو ما فرض على براك توضيحا إضافيا عبر منصة إكس. ووفق ما تقدم فإن اللقاء الإعلامي لبراك في نيويورك كان يهدف فعليا للضغط بدرجة أكبر على لبنان عبر التهويل بخطر وجودي من خلال إعادته الى بلاد الشام. وبالتالي فإن براك وبتوجيه مباشر من البيت الأبيض، والذي زاره لتوه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، يريد برنامجا واضحا لإنجاز الخطوات المطلوبة حيال السلاح الثقيل لحزب الله مع عودة براك الثالثة.
وهذا التفسير الذي ساد الأوساط المراقبة على الساحة اللبنانية يبدو منطقيا وواقعيا، لكنه قد لا يختزل كامل الصورة. فصحيح أن براك سعى من خلال كلامه الأخير إظهار بعض التشدد من خلال إثارة مخاوف وجودية، إلا أن في كلامه جوانب أخرى.
فمن جهة قد يكون المقصود إعادة تصويب التفسير الذي سعت جهات قريبة من حزب الله لتسويقه حول مفاوضات تؤمن مكاسب سياسية جوهرية، من خلال صياغة دستور جديد ونظام سياسي مختلف عن القائم حاليا. ويأتي تفسير كلام براك هنا بأن أي سعي للعب بدستور الطائف القائم حاليا سيؤدي لتعديلات جذرية ستتولاها دمشق. ويرى بعض المراقبين بأن براك تعمد استخدام تعابير جارحة مثل اعتبار السوريين بأن “لبنان منتجعنا الشاطئي” للإشارة الى خطورة التفكير بأي تعديلات دستورية. فبالنسبة لواشنطن هنالك قرار نهائي بعدم ترك أي منفذ أو ثغرة يمكن أن تسمح بنفوذ إيراني في لبنان أو سوريا، لا مباشرة ولا مواربة.
لكن هنالك من يذهب أبعد من ذلك ليصل الى حد الإضاءة على خلفية المشهد المرسوم لمستقبل المنطقة ككل. فبراك الذي دشن مهامه في المنطقة بتغريدة “نعي” سايكس بيكو، يشتم دائما في خلفية كلامه “نكهة” التحضير لمشهد جغرافي جديد للمنطقة.
فحتى بالأمس وفي كلامه في نيويورك بدأ الصديق الحميم لترامب حديثه بالإشارة بأن تدخلات الغرب في هذه المنطقة من العالم منذ عام 1919 (مؤتم سان ريمو الذي كرس تقسيمات سايكس بيكو) الى نتائج رائعة، إذا نظرنا الى سايكس بيكو وتقسيم المنطقة الى دول قومية وما تلاها. وتابع براك: رؤية ترامب مختلفة، وليس هذا ما يريد القيام به.
ووفق ما تقدم يمكن استنتاج خلفية المشهد الذي تعمل إدارة ترامب على رسمه. خارطة جغرافية جديدة لا تقوم كياناتها على الأسس القومية التي عرفناها. فوظيفة تلك الخرطة انتهت على ما يبدو. ومن هذه الزاوية لا بد من النظر الى التطورات الهائلة والمتسارعة والتي احتاجت للتبدلات الجذرية على مستوى السلطة في دمشق، والتي تطال أجزاء أساسية من ساحتها، والتي تطلبت إبقاء النار مشتعلة ليس فقط في غزة والضفة ولبنان وسوريا، بل وصلت الى طهران والسعي لإنهاء قدرتها الإقليمية، في وقت بات معلوما أن إيران تريد أن تتولى دور القوة الإقليمية العظمى في الشرق الأوسط.
ومن هذه الزاوية يصبح مفهوما أكثر أن يجري تعيين الصديق الأقرب لترامب كسفير لبلاده في تركيا والتي تعمل بالتفاهم والتحالف مع واشنطن على ترتيب حضور جديد لها في المعادلة الجاري رسمها. وفي الوقت نفسه أن يجري إيلاءه الملف السوري مع كامل التبدلات الجذرية التي تطاله. وبالتالي فإن إضافة لبنان الى مهامه، وتحديدا مهمة إنهاء النفوذ الإيراني على ساحته، تصبح أكثر وضوحا.
ولا يجب أن يغيب عن بالنا الإندفاعة السريعة لدمشق باتجاه التطبيع مع إسرائيل. فالكشف عن لقاء سوري_إسرائيلي مباشر في باكو خلال زيارة رسمية لأحمد الشرع الى أذربيجان إنما يعكس عن مسار كبير جرى إجتيازه بسرعة خلال المرحلة الماضية، خصوصا وسط المعلومات عن العديد من الإجتماعات التي حصلت بين الطرفين سرا في تركيا.
كذلك فإن خطوة تسليم حزب العمال الكردستاني لأسلحته إنما حصل بناء لتفاهمات سرية قد تمنح الأكراد إعترافا بحضور في شمال سوريا. مع الإشارة هنا الى الإشتباكات العنيفة التي حصلت بين الأكراد والقوات السورية. وفي الوقت نفسه تتصاعد التوترات والإشتباكات في المنطقة الدرزية في السويدا، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال الى تعزيز وترسيخ سلطة وحضور القوى المحلية على حساب حكومة دمشق.
ومن هنا لا بد من التمعن بحركة نتنياهو بعد عودته من واشنطن، خصوصا أن أي نتائج واضحة لم تصدر. وهو إما أن ذلك يعني الخلاف والفشل، ولكن أي مؤشرات سلبية لم تظهر، لا بل على العكس أشاد نتنياهو بترامب كأهم صديق لإسرائيل بين كل الذين سبقوه. أو أن يعني ذلك وجود تفاهمات كبيرة وسرية ما يمنع حتى التلميح لها، وهو الأرجح، وهنا باب الخطورة. وفي إحدى أهم الإشارات ما تردد من تلميحات إسرائيلية حول نجاح نتنياهو فور عودته، بإقناع وزيري اليمين المتطرف بن غفير وسموتريتش بالقبول باتفاق وقف النار في غزة. والمعروف عن اليمين المتطرف تمسكه الحازن والعقائدي بعدم المساومة على تصفية الحضور الفلسطيني وتثبيت الدولة اليهودية عبر استكمال الحرب وعدم الذهاب الى وقف لإطلاق النار تحت طائلة الإنسحاب من الحكومة. لكن تعديل اليمين المتطرف لموقفه فجأة يحمل في طياته ما يؤكد ويضمن الذهاب باتجاه تحقيق العقيدة التي يعمل لها.
وهنا لا بد من الإشارة الى التغريدة التي كتبها رئيس الوزراء القطري ووزير الخارجية السابق حمد بن جاسم على منصة إكس. فهو حذر فيها من تقسيم محتمل لدول عربية ومن بينها سوريا، على نار التوترات الحالية في المنطقة. والمعروف عن حمد بن جاسم علاقته القوية والوثيقة مع دوائر أميركية نافذة.
ووفق كل ما سبق، فإنه من البساطة بمكان النظر في الإهتمام الأميركي بلبنان من زاوية ضيقة ومحدودة. لا بل أكثر، فلا بد من التيقن بوجود قرار كبير على مستوى “تغيير الدول” ما يستوجب “حفظ الرأس” لا المكابرة وأخذ الأمور بخفة وسذاجة. وقد يكون التهويل الذي لوح به براك صحيحا في جانب منه. بمعنى أن زوار واشنطن يتحدثون عن إستئناف الحرب الإسرائلية مع بداية الخريف إذا لم يلبي لبنان المطالب الأميركية. وأن الحرب الجوية من المحتمل أن تكون مقرونة هذه المرة بمواجهات برية ستتولاها قوات الشرع عند الحدود مع البقاع الشمالي وحيث جرى رفع أعداد العناصر السورية والإيغور بعض الشيء. ويجب التنبه دائما الى “المكاسب” الإقليمية التي يمكن أن تنالها تركيا من خلال إمساكها بأوراق قوة إضافية في حال الحرب. أضف الى ذلك التنسيق الأمني الكبير بين واشنطن ودمشق، وأن التقدم في العلاقة بين سوريا وإسرائيل لا بد أن يتضمن تفاهمات أمنية وعسكرية.
وفي تعليقه على العاصفة التي أدى إليها كلام براك، ذكر مراقب عتيق بالطرفة اللبنانية التي تقول أن أحد الأشخاص إنشغل في البحث عن ورقة مالية أضاعها، فسأله صديقه أين أضاعها؟ فأجاب الرجل وهو يؤشر بأصبعه بعيدا، هناك. عندها سأله صديقه باستغراب: ولكن لماذا تبحث هنا؟ وكان جواب الرجل، لأنه هنا يوجد ضوء.
عسى ألا نكون نبحث عن مصيرنا ومستقبلنا في المكان الخطأ.