
نفذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضربته مستهدفا البرنامج النووي الإيراني والذي شكل مطلبا غربيا وإسرائيليا مزمنا. لكن السؤال الأهم هو حول المسار الذي ستسلكه الأحداث، وتحديدا حول الرد الإنتقامي الإيراني ومداه. ذلك أن الضربات الصاروخية التي وجهتها إيران الى العمق الإسرائيلي بعد ساعات معدودة لا يمكن وضعه في مستوى الرد على عملية بحجم تدمير مشروع نووي، عملت إيران على بنائه طوال العقدين الماضيين، وكلفها مجهودا مضنيا وأموالا هائلة وساحات نفوذ وعقوبات أرهقت الإقتصاد.
ولا شك أن الإدارة الأميركية حسبت مسبقا لكافة احتمالات ردود الفعل الإيرانية، بدءا من التعرض لقواعدها وقواتها المنتشرة في الشرق الأوسط ووصولا الى عمليات تخريب في الداخل الأميركي. لذلك كان من الطبيعي أن تعلن القواعد الأميركية في المنطقة حال الإستنفار الشديد بموازاة حال التأهب التي طالت الدول التي تستضيف هذه القواعد وخصوصا في الخليج. أما في الداخل الأميركي فجرى وضع أجهزة الأمن على رأسها جهاز الFBI في حال تأهب قصوى، وجرى تشديد الرقابة على المباني الحكومية والمؤسسات الكبرى في نيويورك والمدن الكبرى خشية حصول اعتداءات عليها. صحيح أن هنالك مراقبة ومتابعة دائمة للعناصر الموالية لإيران، لكن ثمة اعتقاد باحتمال تسلل عناصر أمنية مع المتسللين غير الشرعيين في أوقات سابقة وهم مجهولين من قبل الأجهزة الأمنية. لكن الأهم هو المسار الذي ستسلكه المنطقة بعد الرد الإيراني وكيفية التعامل معه، خصوصا وأن ترامب حرص على القول بعد تنفيذ ضربته أن ما حصل ينحصر فقط في إطار إنهاء المشروع النووي الإيراني وليس لاستهداف النظام القائم.
وخلافا لمهلة الأسبوعين التي كان أعطاها، باغت الرئيس الأميركي العالم بتنفيذ ضرباته لتدمير البرنامج النووي الإيراني. وقيل أن سبب الإستعجال إرتكز على تقييم أميركي بأن السلوك الإيراني ما يزال يرتكز على كسب الوقت واستهلاكه بالتفاوض للتمكن من الوصول الى عتبة السلاح النووي. ففي مباحثات جنيف بين وزير خارجية إيران ونظرائه من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وممثلة الإتحاد الأوروبي تعمقت أكثر فأكثر القناعة بنظرية “كسب الوقت” وليس إيجاد مخرج ديبلوماسي جدي. ففيما طرح الأوروبيون إنجاز تسوية كاملة دفعة واحدة كان رد عراقجي بأن بلاده ترحب بالتفاوض وإنجاز الحل الديبلوماسي لكن عبر التفاوض على طريقة الخطوة خطوة، ومن خلال البدء بالبحث بالعدوان الحاصل على إيران وتحديد المسؤوليات. وسعى الأوروبيون لإقناع الجانب الإيراني بأنه لا يجب الوقوع في خطأ التقدير لدعوات ترامب للتفاوض، ولا للتقليل من خطورة الوضع وتأثير الفريق المؤيد لإسرائيل داخل الإدارة الأميركية. ففي الواقع كان التقييم الدائر منذ إطلاق إسرائيل عملية “الأسد الصاعد” بأن الردود الإيرانية والتي اقتصرت على استهداف مناطق سكنية في إسرائيل بالصواريخ البالستية، إما أنها تأتي في إطار ضبط النفس المدروس، أو أنها تعاني من محدودية قدراتها العسكرية مقارنة بالهيمنة الجوية الإسرائيلية. وعلى الأرجح هذا ما شجع ترامب على خوض المغامرة الكبرى. فحتى الرشقة الصاروخية على إسرائيل والتي تلت القصف الأميركي للمنشآت النووية الإيرانية لم تستهدف مفاعل ديمونا النووي الإسرائيلي. صحيح أنها استخدمت وللمرة الأولى صاروخ خيبر والذي يتميز بقدرته على اختراق الدفاعات الجوية وبدقة إصابته، إلا أن الأهداف المحددة في الرد الإيراني لم تتجاوز الخطوط الحمر، وإن كانت طالت مطار بن غوريون.
وحرصت واشنطن على إبلاغ طهران فور انتهاء قصفها للمنشآت النووية الإيرانية بأنها لا تخطط للمزيد من الضربات، كما أنها لا تهدف لإسقاط النظام القائم. لكن الأمور قد تخضع للتبدل وفقا لشكل الرد الإنتقامي الذي ستعتمده طهران. فليس من السهل أبدا لنظام يعتمد على الهيبة كركيزة أساسية لاستمراره أن يتقبل ويهضم بسهولة ماجرى. فهو كان أمضى زهاء عقدين من الزمن في بناء بنية عسكرية رادعة تستند على مبدأ الدفاع المتقدم عبر شبكات إقليمية وتطوير صاروخي أثبت نجاحه. ما يعني أن الخسارة العسكرية بالنسبة له تبقى أقل مرارة من الخسارة السياسية.
لكن السؤال الأبرز يبقى حول النتائج المترتبة على المنطقة بعد انتزاع مخالب إيران النووية وذهاب الأوضاع باتجاهات دراماتيكية. فمن الواضح أن إسرائيل خططت لما هو أبعد من النووي. فنتنياهو لا يكف عن التذكير دائما بتغيير وجه المنطقة. وهو ما يدفع للإستنتاج بأن عملية “الأسد الصاعد” تهدف فعليا لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط الجغرافية وليس فقط السياسية.
وبادئ ذي بدء لا بد من الإقرار بأن إسرائيل التي نعرفها تغيرت فعلا. فعدا أن عملية “طوفان الأقصى” جعلتها تتجاوز “عقدة” تعداد أعداد القتلى والخسائر لجنودها، فإن المجتمع الإسرائيلي ما يزال يدفع باتجاه الإستمرار في الحرب لا بل تصعيد وتيرتها رغم مرور حوالي سنة وثمانية أشهر وهي تخوض حربا متواصلة وبجبهات عدة. فوفق آخر استطلاع نشرته القناة 13 الإسرائيلية منتصف الأسبوع الماضي أبدى 75% من المستطلعين تأييدهم للحرب. لكن إذا حذفنا الشريحة العربية والتي شملها الإستطلاع تصبح نسبة السكان اليهود المؤيدة للحرب أعلى بكثير. وفي استطلاع آخر أجراه مركز دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب سجل ارتفاع في مستوى الثقة بالحكومة وبرئيسها منذ بدء الحرب على إيران، وعلى الرغم من الدمار الكبير والخسائر البشرية الذي خلفته الصواريخ الإيرانية. وحسب استطلاع القناة 13، فلقد ارتفعت مقاعد حزب الليكود من 24 مقعدا في الإستطلاع الذي سبق الى 27 مقعدا، ومع تسجيل تراجع لجميع الأحزاب الأخرى. وبالتالي وفي حال حصول انتخابات الآن فإن حزب الليكود يعود ليصبح أكبر حزب في الكنيست، ويكون نتنياهو نجح ليس فقط في ترميم مكانته السياسية بل في انتزاع تأييد لاندفاعته في اتجاه “تغيير وجه المنطقة”.
وفي وقت تتعرض فيه إيران لحرب جوية مفتوحة من قبل الطائرات الإسرائيلية ولضربات أميركية استهدفت منشآتها النووية، بقيت روسيا أو البلد الذي من المفترض أن يكون حليفها، تتعاطى ببرودة مع هذه التطورات الهائلة، وهو ما يعيد التذكير بالمرحلة التي أدت الى سقوط نظام بشار الأسد في سوريا. فعلى الرغم من مرور حوالي العشرة أيام على بدء العمليات العسكرية الجوية الإسرائيلية إمتنعت موسكو عن تقديم أي دعم عسكري يذكر لطهران، واكتفت بعد مرور بضعة أيام على بدء الحرب بإعلان مواقف منددة وطرح مبادرات مرفقة بدعوات للتهدئة. وهو ما يدفع للتساؤل حول ما جرى من تفاهمات بين البيت الأبيض والكرملين عبر القناة الخلفية المفتوحة بينهما. فهنا لا بد من النظر من خلال الزاوية الأوسع والتي تتعلق بالمصالح الكبرى، وربما بالمشاريع التي ترسم خرائط النفوذ مستقبلا.
فخلف الدخان الكثيف المتصاعد من الحرب الدائرة ووسط ضجيج القصف حصلت خطوة وبشكل خاطف ولم تأخذ حقها في الإعلام، رغم معانيها العميقة. فلقد أعلن المجلس التنفيذي في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا والتي تخضع للأكراد، تشكيل الإدارة العامة لمطار القامشلي الدولي. وهو ما يشبه الإعلان الرسمي من قبل الإدارة الذاتية الكردية ببسط سيطرته الكاملة على المطار أو الحدود الجوية لهذه المنطقة. وردت السلطات في دمشق بأنها متمسكة بأن تكون إدارة المطار تتبع لها وبشكل مباشر. وبأنها هي من سيشرف على كافة الأمور الإدارية والمالية، الى جانب الأصول والممتلكات التابعة للمطار. ومن الواضح أن إعلان الأكراد عن خطوتهم يتزامن مع التطورات الكبرى الدائرة في إيران. وهو ما يعني اتخاذ خطوة متقدمة باتجاه استقلال المنطقة الخاضعة لسيطرتهم عن الحكومة المركزية في دمشق. ولا حاجة للتذكير بالعلاقة المميزة التي تربط الأكراد بواشنطن وبتل أبيب. وثمة تفصيل مهم بأن مطار القامشلي يضم قاعدة عسكرية روسية تتولى تسيير رحلات عسكرية مع قاعدة حميميم. كما أن استخدامه لغايات مدنية ما تزال معلقة منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول من العام الماضي. وهنا يصبح السؤال منطقيا ما إذا كان مسلسل ظهور “الإدارات الذاتية” قد بدأ فعلا إنطلاقا من المنطقة الكردية لينسحب بعدها على الجنوب السوري وربما الساحل السوري لاحقا حيث القاعدتين الجوية والبحرية لروسيا. والسؤال الأهم ما إذا كانت هذه العدوى قد تتمدد خارج نطاق الجغرافيا السورية؟
في العام 1991 وبعد فخ اجتياح صدام حسين للكويت وحصول حرب الخليج الأولى وسقوط العراق كقوة عسكرية إقليمية كبرى، ظهر مشروع المؤتمر الدولي للسلام والذي كان يرتكز على معاهدات الصلح مع إسرائيل وحل الدولتين. وشمل ذلك الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية. لكن المشروع توقف مع اغتيال الدولة الإسرائيلية العميقة لأبرز عواميد المشروع إسحق رابين. وفي العام 2003 غزا الجيش الأميركي العراق وأزال نظام البعث القائم وأعدم لاحقا صدام حسين العدو اللدود لإيران. ولاحقا اغتالت إسرائيل الزعيم التاريخي للفلسطينيين ياسر عرفات قبل أن يسقط أيضا الزعيم السني الثالث وهو رفيق الحريري. ومع غياب هذه الرموز السنية القوية أضحت الأبواب مفتوحة أمام إندفاع إيران غربا ووصولا الى شاطىء البحر الأبيض المتوسط، وهو ما عرف لاحقا بالهلال الشيعي. وكان واضحا أن فتح الأبواب أمام قيام هذا الهلال إنما كان يهدف للتوازن أو ربما للتصارع مع العمق السني الخليجي، خصوصا وأن كا ذلك جرى هندسته بعد أحداث 11 أيلول والتي ضربت العمق الأميركي وهزته بقوة.
والسؤال اليوم حول المشروع الجديد للمنطقة بعد سقوط كل المشاريع السابقة وإثر الحروب الهائلة التي تنقلت بين أرجاء المنطقة، والتي وصلت الى ذروتها مع استهداف إيران نفسها واقتلاع مخالبها وإعادتها معزولة الى داخل حدودها.
أغلب الظن هذا ما يعنيه نتنياهو عندما يردد بحماس: تغيير وجه المنطقة.