مقالات صحفية

“تدمير “النووي” أم النظام” بقلم الكاتب السياسي جوني منيّر

على وقع ارتفاع حماوة الحرب الجوية والصاروخية الدائرة بين إيران وإسرائيل، إرتفعت الإنتقادات الساخرة في واشنطن ولاسيما في أوساط الديمقراطيين ضد الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فقالوا بأن ترامب قال دائما بأنه فور انتخابه سينهي حربين (أوكرانيا وغزة)، لكننا الآن نشهد بدء حربا ثالثة. ويردد الديمقراطيون بأن إدارة جو بايدن سلمت إدارة ترامب سيطرة أميركية مطلقة على كامل مجريات الشرق الأوسط، أما اليوم فالخطر يلوح في الأفق حول إمكانية فقدان القدرة الأميركية على توجيه مسار الأحداث.
وفي مقابل هذه الإنتقادات اللاذعة للفشل الذي لاحق الوعود الخارجية لترامب، يضغط اللوبي اليهودي الأميركي باتجاه دخول القوة الأميركية العسكرية على خط الحرب القائمة بين إيران وإسرائيل، لا بل والذهاب أبعد من ذلك وصولا الى تقويض النظام الديني القائم واستبداله بآخر أكثر إعتدالا. وحجة هؤلاء أن النظام القائم الآن هو خطر على المصالح الأميركية في المنطقة وبنفس مقدار الخطر على إسرائيل واستقرار المنطقة. إلا أن ترامب وفريقه ما زالا على تمسكهما بعدم السعي لاستهداف التركيبة الدينية التي تمسك بمفاصل السلطة.
وكان واضحا التنسيق بين ترامب ونتنياهو والذي سبق بدء عملية “الأسد الصاعد” المستوحى من نص توراتي. لكن الرئيس الأميركي وبخلاف الإنطباع الغالب فهو لم يمنح نتنياهو الدعم الكامل والمطلق. إذ أنه ليس فقط لم يشرك قواته في أي دعم أو إسناد، لكنه أيضا لم يزود إسرائيل بالقنبلة الوحيدة القادرة على اختراق الأعماق ومعها القاذفة الجوية المتخصصة بحملها، رغم أنه يعلم جيدا بأن القنابل التي هي بحوزة الجيش الإسرائيلي والخارقة للتحصينات غير قادرة على بلوغ المستويات العميقة. وهذا ما يفسر بوضوح حديث إسرائيل عن إلحاق أضرار بمنشأة نطنز والمنشآت الأخرى، وليس عن تدميرها، وهو ما يعني أن القصف طاول كل ما هو فوق الأرض أو الذي تحت الأرض مباشرة، لكنه لم يصل الى العمق المطلوب. وقد يكون ترامب هدف لجعل الهجوم الإسرائيلي وفق المستوى المحدد حافزا لجعل إيران تعود الى طاولة المفاوضات بسقف أكثر واقعية. ويأتي كلام وزير الدفاع الأميركي السابق ليون بانيتا ليؤكد هذا الإعتقاد، إذ أنه يعتبر بأن تدمير المنشآت النووية مسألة صعبة في ظل غياب القدرات العسكرية المطلوبة كالقنبلة الخارقة للأرض. أما القائد السابق للقيادة الوسطى “سنتكوم” الجنرال جوزف فوتل فقال بأنه لا يعتقد بأن العملية ستكون سريعة، بل أنها ستمتد لبعض الوقت.
ووفق ما سبق باتت الخشية أكبر بأن يضطر البيت الأبيض للإنزلاق باتجاه الإنخراط المباشر بالحرب القائمة، أو تدحرج الأمور وفق الرغبة الإسرائيلية والمقصود هنا “نسف” ركائز النظام القائم وفتح الطريق أمام تركيبة جديدة.
ووفق مجرى العمليات والتي نسبت للموساد فلقد تبين بوضوح أن بعض معارضي النظام القائم ولاسيما ما يعرف بمجاهدي خلق شاركوا بعمليات سرية داخل إيران وأمنوا نجاح الضربة الأولى المباغتة. وعملت القاعدة التي يديرها الموساد في أذربيجان على التخطيط وتنسيق الخطوات مع مجموعات لمجاهدي خلق في العمق الإيراني، ولو أن بعض هذه العمليات حقق نجاحا وبعضه الآخر فشل في تحقيق غايته. وكلما تقدم الوقت كلما ارتفع مستوى الضربات لدى الجانبين، وهو ما يرفع من مستوى الضغوط على ترامب لدخول واشنطن عسكريا على الخط.
في الواقع لا يريد البيت الأبيض الذهاب باتجاه تغيير النظام لأسباب عدة أهمها أنه يريد توظيف هذا النظام الديني بعد تطويعه، لصالح صراعه مع الصين، ولو من خلال أطر متعددة. كذلك فهو يخشى حصول مواحهات داخلية قد تتسبب بفوضى واسعة، وستؤثر بكل الدول المحيطة بها بدءا من الخليج ووصولا الى آسيا الوسطى. فصحيح أن النظام هرم وأصبح يعاني من ابتعاد الشارع عنه لكنه ما يزال يحظى بمساندة قوية وشرسة من شريحة لا تقل عن 20% كما أظهرت الإنتخابات الرئاسية الأخيرة. أضف الى ذلك أن المجتمع الإيراني ما يزال ينتمي الى الثقافة الغربية وهو متجذر فيها رغم العقود الأربع من حكم الثورة الدينية.
وثمة جانب آخر لا يجب إغفاله وهو المتعلق بالعامل الروسي. ذلك أن موسكو تعتبر أن أي تبدل في المشهد الإيراني سيصيب مصالحها الأمنية في المنطقة. ففي مطلع العام الحالي وقعت كل من موسكو وطهران إتفاقية الشراكة الإستراتيجية بعد مفاوضات طال أمدها، وقيل أن مرد ذلك الى تمهل الكرملين. ذلك أنه من المعروف بأن لكل من البلدين إيديولوجية حكم مختلفة، لا بل متناقضة، رغم وجود تقاطع في مصالح البلدين. لكن عودة دونالد ترامب الى البيت الأبيض بعد انتصار انتخابي كبير جعل الطرفين الحذرين يذهبان بخطى كبيرة للتوقيع على الإتفاقية، وهو ما عكس عدم ثقتهما بسلوك ترامب. إلا أن المعاهدة لم تلحظ بندا صريحا يتناول مبدأ الدفاع المشترك بين البلدين، وهو ما تحتاج له طهران بشدة. وجرى استبداله ببند ملتبس يحظر على الطرفين دعم أو مساعدة المعتدين ضد بعضهما البعض، وبالتالي عدم السماح باستخدام أراضيهما كقواعد أو كمنطلقات لمثل هذه الأعمال.
صحيح وجود نقاط تقاطع عدة بين البلدين، لكن وفي الوقت نفسه هنالك شكوك كبيرة بينهما بسبب تضارب المصالح. تكفي الإشارة الى ما كان أعلنه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عام 2015 عند التوقيع على الإتفاق النووي بأن روسيا كانت عازمة على عرقلة الإتفاق، لكنها عدلت سلوكها في الأسابيع الأخيرة بعدما أصبح الإتفاق أمرا واقعا.
ولكن وبعد انفجار الصراع مع الغرب بسبب حرب أوكرانيا، استعانت موسكو بالخبرة الإيرانية للتحايل على العقوبات والإنخراط في كواليس السوق السوداء لتصريف إنتاجها النفطي وإنقاذ اقتصادها. كما أنها استعانت بالمسيرات الإيرانية والصواريخ البالستية المنخفضة الكلفة للتعويض عن خسائرها في أوكرانيا. وبادلت موسكو طهران بنقل التكنولوجيا العسكرية المتطورة إليها، ومساعدتها في تطوير برنامجها النووي. لكن سقوط نظام الأسد في سوريا أدى الى شطب إحدى أهم نقاط التقاطع في المصالح الروسية والإيرانية. ويومها سادت البرودة وارتفع منسوب الشكوك بين العاصمتين بعد همس إيراني عن تواطؤ روسيا في صفقة مشبوهة لها علاقة ببقاء روسيا في قاعدتي طرطوس وحميميم، في مقابل تململ روسي من تلكوء إيراني من القتال الى جانب النظام عبر المجموعات الموالية لها بسبب انشغالها في تغيير الواقع الديمغرافي الداخلي للتركيبة السورية. وهو ما يؤشر الى حال الشك الدائمة القائمة بين البلدين.
ومن هذه الزوايا المتناقضة يجب مقاربة الإهتمام الروسي الفائق بالتطورات الإيرانية. ذلك أن الكرملين الذي يعرف جيدا الهدف الفعلي الذي تسعى إليه إسرائيل من خلال ضرب النظام الإيراني والذي يتمثل في أخذ المنطقة الى فوضى تؤدي الى تفتتيتها، يخشى من هذا المشروع والذي سيعني نشر الفوضى في منطقة آسيا الوسطى أيضا، ما سيؤدي الى ضرب التوازنات القائمة. لكن موسكو لا تريد في الوقت عينه حصول تفاهم وتقارب من خلال نجاح المفاوضات بين طهران وواشنطن، لأن ذلك سيضعها خارجا، وسيسمح بتدفق النفط الإيراني الى الأسواق ما سيؤذي موسكو، كما أنها لا تريد لإيران أن تمتلك أسلحة نووية كون ذلك يسبب تهديدا أمنيا مباشرا لأراضيها. وقد يكون الوضع الأفضل لبوتين هو بقيامه بوساطة لوقف النار بين إيران وإسرائيل ما يسمح بدخوله شريكا في المفاوضات الدائرة بين طهران وواشنطن.
لكن الحماوة ترتفع بسرعة في الحرب الجوية والصاروخية الدائرة، وهي تجاوزت العديد من الخطوط الحمر، وسط اعتقاد البعض بأن نتنياهو يدفع بإيران الى الأمام رغما عنها بهدف حشر ترامب وأخذه الى خيار تغيير النظام القائم. إلا أن ذلك لا يبدو سهلا ولو تحت ضغط اللوبي البهودي القوي والفاعل لا بل والماكر. وتفضل الإدارة الأميركية إعادة إيران الى طاولة المفاوضات ولكن بشروط مختلفة هذه المرة وبسقف أكثر انخفاضا لطهران. أما في حال تدحرج الأمور باتجاهات دراماتيكية لتصبح خارجة عن السيطرة، فإن واشنطن قد تذهب لدعم خطوة “تصحيح” النظام من الداخل وليس نسف النظام القائم، وذلك عبر إيصال رموز دينية وحتى سياسية من داخل النظام الديني ولكن من ذوي السلوك الواقعي والمعتدل. ويبقى هذا الإحتمال أضمن للجميع كونه يجنب انفجار الوضع داخل إيران وبالتالي نشر الفوضى في المنطقة.
المهم بالنسبة للبنان أن يبقى بعيدا عن الصراع الدائر والذي يحمل فعليا عنوان “تغيير وجه المنطقة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى