مقالات صحفية

“اللقاء اللبناني السري في القاهرة” بقلم الكاتب السياسي جوني منيّر

ليس صحيحا بأن إدارة الرئيس دونالد ترامب طوت الملف اللبناني ووضعته جانبا. فالرئيس الأميركي يتناول الوضع اللبناني في معظم حركته المتعلقة بالمنطقة. هكذا فعل خلال اتصاله الأخير برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، كما أن المواقف التي أكلقها خلال زيارته التي قام بها الى الخليج تناول فيها لبنان بشكل متكرر وبشيء من التفصيل. وبالتالي فإن لبنان ما يزال موجودا على لائحة الأولويات الأميركية، ولو أن الملف السوري بات يحوز على المرتبة المتقدمة.
لكنه لم يعد سرا أن واشنطن تخضع لبنان لسياسة الضغط الأقصى بهدف دفعه للقيام بمهمة نزع سلاح حزب الله. ولذلك فهي لا تنفك عن إرسال إشاراتها في هذا الخصوص، والتي حملت العديد منها نائبة المبعوث الأميركي الى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس. لكن لبنان الواقع تحت ثقل الضغوط الأميركية من جهة والإعتداءات الإسرائيلية المتصاعدة من جهة أخرى، يحرص على استكمال تنفيذ ما نص عليه اتفاق وقف إطلاق النار، ولكن من دون تعريض إستقراره الداخلي الهش لأي هزة سيكون من الصعب جدا معالجتها. وخلال الزيارتين اللتين قامت بهما الى بيروت كانت المواقف العالية السقف هي السائدة لدى أورتاغوس. وخلال الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس اللبناني الى القاهرة حيث شرح الواقع الصعب الذي يمر به لبنان وحاجته الى فتح أبواب الدعم الإقتصادي والإستثماري بوجهه، خصوصا بعدما لمس بأن الظروف لا تسمح بعد بإتمام مشروع نقل الغاز الى لبنان عبر الأردن وسوريا، فاجأه الرئيس المصري بدعوته لاجتماع ثلاثي يضم إليهما الموفد الرئاسي الأميركي الى أفريقيا مسعد بولس والموجود الآن في القاهرة. ذلك أن الرئيس السيسي والذي كان التقى بولس في اليوم الذي سبق حاول أن يشرح المصاعب الدقيقة التي تواجه لبنان والتي تفرض عليه التأني لا التهور. واقترح السيسي على ضيفه الإنضمام الى إجتماعه بالرئيس اللبناني “الذي سيزورني غدا، وهكذا يمكن مناقشة المسألة بوضوح ومن كافة جوانبها”. ووافق بولس شرط إبقاء الإجتماع سريا لأنه ليس مكلفا بأي مهام لبنانية. وفي اليوم التالي وصل بولس بعدما أضحى الرئيسين لوحدهما. وخلال الإجتماع شرح الرئيس اللبناني الأوضاع من كافة جوانبها والمهام التي نفذها الجيش اللبناني والتي أدت الى تفكيك أكثر من 500 موقع ومخزن لحزب الله جنوب الليطاني، من ضمن المرحلة الأولى التي وضعها الجيش لإتمامها. لكن الجيش الإسرائيلي والذي استمر بخروقه الجوية اليومية أبقى على احتلاله للمواقع الخمس داخل الأراضي اللبنانية، ما أعطى الذريعة لحزب الله، وجعل من الصعب جدا الإنتقال الى المراحل التالية والتي تتركز شمال نهر الليطاني. ووفق هذا الواقع فإن أي تحرك غير محسوب قد يدفع باتجاهات خطرة وغير محسوبة، خصوصا وأن الصورة الإقليمية ما تزال ضبابية ومشوشة. لكن مسعد لم يكن على تماهي مع العرض اللبناني. ذلك أن إدارة ترامب والتي تنوه بما جرى تحقيقه جنوب الليطاني تشير الى أن ما جرى انتزاعه طال السلاحين الثقيل والمتوسط، ولم يقترب أحد من السلاح الخفيف الموجود داخل البيوت، فلا أحد يطالب به. أما بالنسبة لشمال الليطاني فالمطلوب السلاح الثقيل والذي يشمل الصواريخ الدقيقة والبالستية إضافة الى السلاح النوعي، أما الباقي فليس مطلوبا الآن. إلا أن استمرار سعي حزب الله لتهريب السلاح الى لبنان وهو ما يجري ضبط بعضه في سوريا فهو يعطي الإشارة بأن حزب الله ليس جديا بأنه سيسلم السلاح لاحقا، وأن كل ما يفعله هو لتقطيع الوقت وتمرير المرحلة لإعادة بناء قوته العسكرية، وفق ما تعتقده أوساط أميركية.
ولاحقا حصلت مشاورات بين لبنان ومصر وفرنسا للسعي لدفع الإدارة الأميركية لتليين موقفها وفتح أبواب المساعدات أمام لبنان من خلال الفصل بين ملفي الإصلاحات (والذي يشمل إنهاء القرض الحسن) وسلاح حزب الله. وبالتالي فإن إتمام لبنان لبرنامج الإصلاحات المطلوب منه عبر صندوق النقد الدولي، يجب أن يؤدي الى فتح أبواب المساعدات الإقتصادية التي يحتاجها لبنان بقوة، في وقت تستمر فيه المعالجة الهادئة لملف السلاح ومن دون تهور قد يطيح بالإستقرار الداخلي، ويعيد نسف ركائز الدولة. مع التأكيد على التصميم الجدي لمعالجة هذا الملف. لكن وفي الإجتماع الثلاثي الفرنسي والأميركي والسعودي والذي عقد في باريس بدعوة من الفرنسيين رفضت واشنطن ومعها الرياض بشكل قاطع فكرة الفصل بين الملفين، وأكدتا على أن أي مساعدات لا يمكن أن تحصل إلا بعد إتمام ملفي الإصلاحات والسلاح معا.
في هذا الوقت كانت أورتاغوس تتحضر لجولة ثالثة في لبنان جرى التمهيد لها بتسريبات إعلامية تؤشر لسقف عال. لكن وبعد تأجيل الموعد المبدئي لزيارتها جرى تناقل أخبار حول كف يدها عن الملف اللبناني تحضيرا لتسلمها موقعا آخر. وفي وقت ضجت فيه وسائل الإعلام اللبنانية بخلفيات شتى لإزاحتها عن الملف اللبناني فإن الأوساط المطلعة في واشنطن تجزم بأن القرار حصل لأسباب داخلية، وأن استبدالها لا يعني أبدا تغييرا في مواقف الإدارة الأميركية، وهو ما سيلمسه اللبنانيون بأنفسهم لاحقا.
وبانتظار استلام السفير الأميركي الجديد في لبنان ميشال عيسى لمهامه بعد جلسة الإستماع إليه ونيله موافقة الكونغرس وهو ما سيتطلب بعض الوقت بسبب وجود لائحة طويلة من الأسماء قبله، جرى التوافق على قيام السفير الأميركي في تركيا والمكلف بالملف السوري توم براك بزيارة الى لبنان. لكن براك سيناقش الملف المتعلق بالمشاكل المشتركة بين سوريا ولبنان مثل ترسيم الحدود وعودة النازحين والتعاون الأمني المشترك. أما الملفات الأخرى المتعلفة بالإصلاحات والسلاح وواقع حزب الله، فمن المتوقع أن يحملها مسعد بولس. ومن هنا ظهر الاقتراح بأن يرافق بولس براك.
لكن الموعد الأولي الذي كان حدد حوالي منتصف الشهر الحالي للزيارة جرى تأجيله الى موعد آخر في أواخر الشهر، مع إضافة احتمال أن يكون لكل منهما زيارة منفصلة عن الأخرى ووفق ما تتطلبه الظروف. أما التأجيل فعزته أوساط في واشنطن لأسباب أمنية. لكن البعض لم يقتنع بهذا التبرير، وهو رأى الى أن السبب قد يكون له علاقة بوجوب اتضاح الصورة بين واشنطن وطهران للبناء عليها، رغم أن الأوساط الأميركية ترفض الإقرار بوجود أي ربط في هذا الشأن، لا بل فهي تنصح بعدم الربط بين وضع لبنان والمفاوضات الأميركية الإيرانية كي لا تأتي الحسابات الخطأ. واللافت أنها باتت تضع مهلة نهاية الصيف كموعد لدفع لبنان لإنجاز خطوة جدية قبل الإنتقال الى مرحلة أخرى.
وبانتظار ذلك فإن أجواء واشنطن لا تبدو متفائلة تجاه المنحى اليومي للأمور في لبنان. فهي، وخلافا لما شاع مؤخرا، تتفهم وجهة نظر إسرائيل باستمرار استهدافاتها الجوية لتحركات حزب الله وللمواقع التي تشتبه بها كما حصل أخيرا في الضاحية الجنوبية. لا بل فهي تتوقع أولا عدم حصول إنسحاب إسرائيلي قريبا من جنوب لبنان، وثانيا الدخول في مرحلة جديدة من الإستهدافات الجوية الإسرائيلية كما حصل في الضاحية وذلك عندما تدعو الحاجة. وهنا يغمز البعض من زاوية البقاع وممرات نقل السلاح.
وتتحدث هذه الأوساط في الوقت نفسه عن وضع يزداد تعقيدا واحتقانا على مستوى المنطقة. ذلك أن الفريق الذي يعتقد بأن إيران تلعب على الوقت وهي ليست جادة في التفاوض، بات أكبر وأكثر تأثيرا في القرار. ولا يخفى على أحد أن هذا الفريق يتماهى في نظرته مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. ولفتت شهادة قائد السينتكوم الجنرال مايكل كوريلا خلال جلسة الإستماع إليه أمام الكونغرس والتي أشار فيها الى أنه أعطى الرئيس الأميركي ووزير الدفاع مجموعة واسعة من الخيارات العسكرية في حال فشل المفاوضات النووية مع إيران. وفي موازاة ذلك يتصاعد الكلام أكثر فأكثر داخل إسرائيل ولاسيما بين النخب المحيطة بالحكومة بأن خيار الضربة العسكرية بات أكبر من احتمالات نجاح المفاوضات مع إيران.
البعض يضع هذه المؤشرات في إطار “فن” التفاوض واستخدام أقصى الضغط من خلال وضع أوراق القوة على الطاولة إضافة الى أن الإنطباع العام عن ترامب بأنه ليس رجل حروب بل رجل صفقات تجارية ومالية، خصوصا وأنه بات محشورا داخليا ما يجعله في موقع ليس مريحا. لكن البعض الآخر يرى أنه من الخطأ التعاطي مع شخصية ترامب من زوايا ثابتة. فهو من الصنف الذي من الصعوبة بمكان توقع ردات فعله خصوصا حين يكون تحت الضغط ويمر بخيبات أمل. فهو فشل حتى الآن في كافة وعوده الخارجية بدءا من أوكرانيا ووصولا الى غزة. أضف الى ذلك المشاكل الكبرى التي يعانيها داخليا ولاسيما بعد انتشار الإحتجاجات والتي تحولت لتصبح منظمة. صحيح أنه خلق قضية جديدة و”عدوا” سيعمل على إعادة التفاف الشارع حوله لمواجهته، لكنه بات جريحا ومن الصعب التكهن في كيفية تعامله مع الملف الخارجي الأخير والمقصود به إيران.
وعلينا ألا ننسى دائما أن لبنان ما يزال ساحة نفوذ لإيران ولو بنسبة أضعف بكثير من السابق. ورسالة زيارة وزير الخارجية الإيراني الى لبنان واضحة كل الوضوح، ولو أنها جاءت بصيغة ديبلوماسية ناعمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى