مقالات صحفية

رسائل الصواريخ “المجهولة” بقلم الكاتب السياسي جوني منيّر

الصواريخ “المجهولة” التي انطلقت من الأراضي اللبنانية للمرة الأولى منذ اتفاق وقف إطلاق النار شكلت محط اهتمام ومتابعة وتمحيض للأطراف المحلية والدولية على السواء. صحيح أن إسرائيل تعمد يوميا على تجاوز الإتفاق الذي عقد وتمعن في أعمال خرق وقف إطلاق النار وترفض إنجاز الإنسحاب الكامل بما يتعارض مع ما جرى التفاهم حوله، إلا أن التركيز الذي حصل حيال إطلاق الصواريخ البدائية مرده الى الرسالة التي حملها في هذا التوقيت بالذات، والجهة الحقيقية التي تقف خلفها.
وبغض النظر عن التحقيقات الدائرة لاكتشاف كامل الملابسات والخلفيات وهوية مطلقي الصواريخ الست، إلا أن للأوساط الدولية والتي تولي الساحة اللبنانية أهمية كبيرة، قراءتها السياسية الخاصة. وهي تعمد من جهتها لوضع تفسيرها السياسي للمعطيات التي ظهرت حتى الآن. فالصواريخ البدائية تهدف للقول بأن الجهة ليست محترفة ولا على قدر عال من التسليح والحرفية. أو بمعنى أوضح بأن الجهة قد تكون من مجموعة قتالية “متحمسة” أكثر منه قوة منظمة ومجهزة. لكن الأوساط المراقبة تقرأ في هذه الناحية وجود سعي مقصود للتمويه وتشتيت الأنظار، بدليل أن هذه المجموعة “المتحمسة” كانت لتقع فورا بقبضة القوى العسكرية المنتشرة في المنطقة قبل أو بعد إتمام العملية. فالحماسة تدفع عادة لارتكاب الأخطاء، وهو ما لم يحصل. ولكن حتى ولو اعتقل لاحقا “متحمسا” فإن السؤال الأساسي يبقى حول الآمر الفعلي لا الذين تولوا عملية الإطلاق.
كذلك فإن لاختيار منطقة شمال الليطاني معناه الواضح بأن السلاح حتى البدائي منه لم يعد متوفرا جنوب الليطاني، أما شماله فالحسابات والمعادلات مختلفة. ولا حاجة لاستعادة شريط المواقف حول شمول بنود قرار وقف النار ونزع السلاح شمال الليطاني كما هو حاصل مع جنوبه.
وثمة فرضيات عدة جرى وضعها حول هوية الجهة الآمرة. فهنالك من وجه أصابع الإتهام الى إسرائيل كونها المستفيدة الأولى لجهة امتلاكها الذرائع التي تبرر لها مواصلة إعتداءاتها اليومية على لبنان. وهذا الإستنتاج منطقي. لكن ثمة أولويات أخرى ستجعل نتنياهو متضررا من الصواريخ. فهو يعيش واقعا داخليا صعبا، لاسيما مع عودة التظاهرات، واتهامه بالفشل في تحقيق أهداف الحرب على غزة، إضافة الى عدم إزالة خطر حزب الله ما أدى الى إحجام سكان مستوطنات الشمال عن العودة الى منازلهم رغم وقف إطلاق النار. وتأتي الصواريخ لترفع من منسوب قلق هؤلاء ولتزيد من مقدار معارضتهم لنتنياهو، وهو ما ظهر لاحقا.
أما الفرضية الثانية فأشارت الى احتمال أن تكون المجموعة تنتمي الى إحدى الفصائل الفلسطينية كرد لها على المجازر المفتوحة في غزة وعلى استئناف إسرائيل لحربها التدميرية. لكن المخيمات الفلسطينية تبدو بعيدة نسبيا عن مكان الصواريخ. أضف الى ذلك أنه بات للدولة اللبنانية أعين مراقبة قوية داخل المخيمات. كذلك فإن التحرك خارج المخيمات لم يعد سهلا وسط بيئات لبنانية عانت من ويلات الحرب وباتت حساسة جدا تجاه أي عمل أمني “غير لبناني”، إذا لم يكن منسقا مع أطراف لبنانية. وعدم اعتقال أيا من المنفذين، إنما يضعف هذه الفرضية.
أما الفرضية الثالثة فتتحدث عن مسؤولية فريق أو فصيل تابع لحزب الله لكنه بات يعمل خارج نطاق القيادة، بسبب صعوبة التواصل معها وهو ما حصل مع المجموعات القتالية في الجنوب خلال الحرب والتي استمرت في قتالها ضمن مجموعات غير مترابطة ومن دون التواصل مع القيادة بسبب ظروف المعركة والضربات التي أصابت وسائل التواصل العسكري والتي جعلت ما تبقى منها عرضة للرقابة الإسرائيلية. ورغم قرار وقف اطلاق النار إلا أن حزب الله ما يزال يعيش الوضع وكأن الحرب ما تزال قائمة بدليل الغارات المستمرة والقصف والإغتيالات، وهو ما أبقى الواقع العسكري على حاله لناحية عدم إعادة تنظيمه. وقد يكون هذا الواقع صحيحا لكن مع فارق أن كافة قطاعات حزب الله بات يشرف عليها بشكل مباشر خبراء من الحرس الثوري الإيراني، خصوصا بعد الضربات التي تلقتها قيادات الحزب وجعلته يفقد كوادره القيادية. وبالتالي فإنه يصعب تصور وجود هذا الهامش لأي مجموعة من حزب الله إلا إذا كان بضوء أخضر من طهران. وهنا تتركز استنتاجات الأوساط حول معاني الرسالة الإيرانية.
فبعد تراجع الأعمال الحربية أجرت الدوائر الغربية المعنية قراءة كاملة حول نتائج الحروب التي حصلت، والتي هدفت الى ضرب نفوذ إيران خارج حدودها. ووفف هذه القراءات فإن الضربة الأكبر التي تلقاها طهران كانت باغتيال أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله. فلقد ظهر الفراغ الكبير الذي خلفه غيابه ليس فقط على المستوى اللبناني بل أيضا على مستوى المنطقة ومحور المقاومة ككل. فمع غياب نصر الله غابت جاذبية الكاريزما التي كان يتمتع بها مصحوبة بالنبرة القوية. وجسدت إطلالاته هيبة القائد التي تشد أنظار وآذان متابعيه، وتشحن معنوياتهم وترفعها، وتحول أي جهد أو حتى خسارة الى انتصار. وهذا ما اضطر مرشد الثورة علي خامنئي لتكرار إطلالاته وهو ما لم يكن يفعله سابقا. وفي هذا التكرار خشية من استهلاك صورته كقائد أعلى لهذا المحور. وبالتالي فإن الخطب الحازمة والمعبرة والتي كانت تختزن الرسائل المطلوبة لم تعد قائمة. وليس سرا أنه بعد كل خطاب لنصر الله كانت الدوائر الغربية تعمد على إجراء تحليل وتمحيض لاستخلاص الرسائل المطلوبة. وهذا الأمر لم يعد قائما الآن. ولأن الأسابيع الماضية حفلت بأحاديث عن ترتيبات يجري تحضيرها للبنان إنطلاقا من الجنوب، فإن المراقبون يقرأون في رسالة الصواريخ “البدائية” لكن المشغولة والمنفذة بحرفية عالية، بأن تجاوز المعطيات والمعادلات الميدانية الحقيقية القائمة يبقى في إطار القراءة الخاطئة. واستتباعا فإنه على أبواب المفاوضات بين واشنطن وطهران وفق العناوين الثلاث المطروحة فإن عدم الإلتفات الى كل زوايا الصورة سيجعل المشهد غير واضح في المستقبل.
وهنا لا بد من الإشارة الى أن توقيت إطلاق الصواريخ الخمس يتزامن مع تحضير اللجان الثلاث التي ستتولى التفاوض مع إسرائيل حول الإنسحاب والأسرى والحدود البرية، وفي الوقت عينه تتزامن أيضا مع المفاوضات السرية الجاري الحديث عنها بين واشنطن وطهران والتي تشمل عناوين ثلاث وهي، النووي والصواريخ و”أذرع” إيران في المنطقة.
أما الرد الإسرائيلي والذي جاء هستيريا بالنار ولكن مضبوطا بالمعنى الجغرافي للكلمة إنما أعطى إشارة واضحة بأن السقف الأميركي لا يسمح الآن بالعودة الى الصراع المفتوح. فبخلاف تهديد وزير الدفاع الإسرائيلي فإن الغارات الإسرائيلية تركزت على الجنوب والبقاع الشمالي ولم تشمل الضاحية الجنوبية وبيروت. ما يعني أن ثمة ظرف تفاوضي لا يجب التشويش عليه، وهو ما يعزز فرضية أن ترامب يسعى لتفاهمات عبر المفاوضات لا عبر الحرب والتي يستخدم مفرداتها للتهويل لا للتطبيق.
تبقى نقطة أخيرة ولكن بغاية الأهمية وتتعلق بالأضرار التي طالت السلطة اللبنانية. لدرجة يصح معها القول أنه صحيح بأن وجهة الصواريخ كانت باتجاه المستوطنات الشمالية الإسرائيلية لكنها فعليا إنفجرت في بيروت. وقد يكون تشظي السلطة اللبنانية أحد أهداف الصواريخ. فهذه السلطة الفتية قامت على معادلة جديدة لمعطيات النتائج التي ترتبت عنها الحرب. وبالتالي فإن معادلة الحكم اليوم تختلف بشكل كبير عن معادلة الحكم بالأمس. والإستنتاج هنا يصبح واضحا.
فهذه السلطة أنجزت لتوها تعيينات عسكرية لا تتوافق مع الأعراف والأساليب التي كانت قائمة بالأمس. كما أن خطابها الرسمي “غريب” عما درجت عليه الأمور طوال المراحل السابقة. وهي تتحضر لانتخابات بلدية ستجري على مراحل أربع، تبدأ يوم الأحد في الرابع من شهر أيار لتنتهي يوم الأحد في 25 منه. والأهم أن مرحلتها الأخيرة والتي تصادف يوم عيد التحرير ستكون مخصصة للمناطق الجنوبية. وهي تركت للمرحلة الأخيرة كي تكون الأمور قد اكتملت على المستوى اللبناني وأصبحت أكثر وضوحا على مستوى الأوضاع الجنوبية.
أما بيروت فستكون انتخاباتها في المرحلة الثالثة خصوصا وأنه حتى الآن لم تحصل أي ترتيبات أو خطوات لضمان توازناتها الحالية. وهذا ما ينتظره أو يتمناه كثر لصرفه وتسييله في السياسة والمعدلة التي قامت. فعلى مستوى المجلس النيابي لم يلحظ الجدول أي مشروع قانون جديد يضمن الواقع، ولا حتى على مستوى الخطوات التحالفية لم تظهر هذه الجهود، مع العلم أن الرئيسين رفيق الحريري ومن بعده سعد الحريري كانا يبذلان جهودا خاصة لضمان التوازنات المطلوبة، وهو ما لم يظهر بعد.
أما بالنسبة للإنتخابات النيابية وقانونها فلا شيء يشي باحتمال حصول حركة جدية لتعديل القانون القائم، إلا بالنسبة لإجراء تعديل دائم يسمح للمغتربين بالإقتراع للوائح على مستوى الوطن كما حصل في الدورتين السابقتين.
أما بخصوص الميغاسنتر فهنالك صيغتين. الأولى، والتي تمنح الحق لكل لبناني بالإقتراع أينما كان مكانه، لكن هذه العملية تحتاج لوقت طويل لتحضيرها وترتيبها والوقت هنا لم يعد يسمح. والثانية، اعتماد الصيغة على غرار ما يحصل مع اقتراع الإغتراب، أي وفق التسجيل المسبق. وفي هذه الحالة فإن الإمكانيات والوقت يسمحان باعتماد هذه الصيغة.
وهنالك من يرى أن الوصول الى إنجاز الإنتخابات البلدية وبعدها النيابية بنجاح إنما سيعني ترسيخ بنية تحتية إنمائية وسياسية جديدة تتجانس مع المعادلة العريضة القائمة على مستوى السلطة. من هنا يرى البعض أن رسالة الصواريخ الخمس قد لا تكون الأخيرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى