
الإتفاق الذي جرى التوقيع عليه بين الرئيس السوري وزعيم “قسد” أحدث مفاجأة صادمة وانعطافة حادة في مسار الأحداث. فهو جاء عقب أحداث ومجازر دموية في الساحل السوري محورها العلويين وترافقت مع أصوات درزية في جنوب سوريا طالبت بالإنفصال، ما أوحى أن الساحة السورية على شفير الفوضى والتفكك. وجاء هذا الإتفاق المفاجىء ليطلق مسارا آخر مناقض للمناخ الذي كان سائدا قبل ساعات، والذي بدا وكأنه ركون كردي لسلطة دمشق، وتلاه فورا مرونة درزية لصالح سلطة الشرع. وهذا المناخ الإيجابي لفح بدوره لبنان الذي كان تأثر بأحداث الساحل السوري، وحيث باشرت إسرائيل بتسليم أسرى لبنانيين لديها مع الإعلان عن البدء قريبا بمفاوضات تثبيت الحدود مع لبنان. ويبقى السؤال ماذا حصل فعلا، وما هي الخلفية السياسية لهذه الإنعطافة الحادة؟
لا شك أن البصمات الأميركية كانت واضحة في كل ما حصل، إن على المستوى الكردي في سوريا أو في جنوب لبنان، أو حتى على مستوى دروز سوريا. ما يعني أن الإدارة الأميركية والتي باشرت في المرحلة الأخيرة من معالجة الملف الإيراني وفق ما صرح دونالد ترامب نفسه تعمل على ترتيب المسرح بما يخدم مشروعها. فعلى المستوى الكردي بداية لم تخف واشنطن دورها. وتكفي الإشارة الى مروحية الأباتشي التابعة للجيس الأميركي التي تولت نقل وفد قسد برئاسة مظلوم عبدي الى دمشق ذهابا وإيابا. وفي الواقع فإن التمهيد والتحضير لهذا الإتفاق كان قد بدأ في الأسابيع الماضية، لكن المفجأة كانت فعليا في اختيار التوقيت والذي جاء فورا عقب أحداث الساحل السوري، وكأنه ردا عليها، وفي الوقت نفسه استباقا لما هو آت.
ففي شهر شباط الماضي حصل اتفاق بين واشنطن وأنقرة حول الوضع في سوريا. ونالت تركيا بموجبه تسليما أميركيا بنفوذ واسع جرى ترجمته بأن يتولى سلاح الجو التركي “حماية” الأجواء السورية بالتنسيق مع قاعدة أضنة في مقابل الإلتزام بعدم استهداف الأكراد بعد الآن. وللتذكير فإن الخطوط فتحت يومها بين أنقرة والأكراد تحت عنوان إجراء المصالة بينهما. ولاحقا جاء الإتفاق بين دمشق والأكراد ليمنح الأكراد إعترافا كاملا بحضورهم كمكون قائم بحد ذاته في مقابل تسليم حقول النفط والمعابر الحدودية والمعتقلين الداعشيين في السجون الكردية الى السلطة السورية. ولم ينص الإتفاق على حل “قوات سوريا الديمقراطية” وهي التنظيم العسكري للإدارة الذاتية الكردية والمدعومة أميركيا. كذلك لم يتحدث الإتفاق عن تسليم السلاح. وبالتالي فإن الإدارة السورية والتي تعاني إقتصاديا كسبت مداخيل النفط وإنتاج القمح والتي يمسك بها الأكراد، وكذلك المعابر الحدودية مع العراق، وكسب الأكراد الإعتراف الرسمي بكيانهم وبهويتهم الكردية وبمنحهم الحماية من تركيا مصدر التهديد الأكبر لهم.
لكن ما علاقة أحداث الساحل السوري باختيار توقيت الإتفاق؟ مع انفلات الوضع في المنطقة المعروف عنها بأنها تشكل منطقة نفوذ علوية، جرى توجيه أصابع الإتهام الى إيران بأنها تقف وراء استهداف مواقع ومقار للإدارة السورية بهدف توجيه ضربة لها وللجهات التي تدعمها وفي طليعتها تركيا التي رعت خطة إخراج إيران من سوريا والولايات المتحدة التي باشرت بممارسة أقصى الضغوط تمهيدا لمفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني. ولا بد هنا من العودة الى الكلام المهم الذي قاله وزير الخارجية التركي هاقان فيدان في مقابلة له مع محطة الجزيرة في 26 شباط الماضي أي قبل أحداث الساحل السوري بأكثر من أسبوع. فقال فيدان ما حرفيته وموجها حديثه ضمنا الى إيران بأنه “إذا كنت تربد خلق إزعاج لبلد آخر من خلال دعم مجموعة في هذا البلد فإنه سيعمل على خلق إزعاج لك من خلال دعم مجموعة أخرى في بلدك”. وتابع قائلا بأنه لم يعد بالإمكان إخفاء أي شيء في هذا العالم بعد الآن. فما تملكه أنت يملكه غيرك أيضا. لذلك إذا كنت لا تريد أن يرمى حجر على نافذتك فلا ترمي الحجارة على نافذة شخص آخر.
كلام فيدان كان واضحا في دلالاته، وهو يعزز الإنطباع بأن تركيا كانت مرتابة من إمكانية حصول شغب على مصالحها الجديدة في سوريا.
وبالتالي بات يصح الإعتقاد بأن واشنطن وبالتفاهم مع أنقرة تعملان على إغلاق النوافذ المفتوحة في البيت السوري الجديد منعا لدخول الرياح الإيرانية والعبث بالبيت الداخلي وإحداث الفوضى، وهي الحالة القادرة على إعادة إيران كلاعب إلزامي في الملعب السوري. وفي هذا السياق يأتي تصريح الرئيس المشترك لمجلس سوريا الديمقراطية بسام إسحق وفي معرض إقراره بدور واشنطن في إتمام الإتفاق الكردي مع دمشق وحيث اعتبر أن أحداث الساحل السوري أوجبت نهجا جديدا تجاه المكونات المختلفة للدولة السورية، وبهذا لن تتاح الفرصة لفلول النظام السابق للعودة من خلال الطرق القديمة. والأهم ما اعتبره اسحق بأن أحداث الساحل شكلت خطرا وأيضا فرصة لكلا الطرفين، والمقصود هنا السلطة السورية والأكراد. واستطرادا فإن وظيفة الإتفاق هنا هي بإغلاق النوافذ أمام تسلل طهران من جديد الى سوريا من خلال الثغرات والحساسيات الأمنية القائمة. لا بل هنالك من يعتقد أن الإتفاق مع الأكراد سيؤدي الى نقل التوترات الأمنية من الداخل السوري الى الحدود مع العراق، خصوصا وأن تحضيرات تجرب لتوجيه ضربة الى مجموعات داعش المتمركزة في البادية السورية إنطلاقا من المبدأ نفسه والقائم على إغلاق النوافذ الأمنية المفتوحة.
لكن هل هذا يعني أن المبارزة الأميركية_الإيرانية ستتوقف هنا؟ بالتأكيد لا. فإيران التي شاركت في مناورات بحرية رمزية مع الصين وروسيا تتحضر للمشاركة في محادثات ثلاثية في بكين الى جانب روسيا والصين والتي ستطرق الى الضغوط القائمة على طهران والعقوبات القائمة. وفي الوقت نفسه أعلن الحوثيون عن معاودة هجماتهم في البحر الأحمر وخليج عدن وباب المندب. لكن ثمة همس أميركي في المقابل بأن ترامب يحضر لرد عسكري على اليمن أقوى بكثير من السابق.
كذلك هنالك كلام في الكواليس حول ضغوط ستتعرض لها طهران عبر العراق والذي يشكل مصدرا أساسيا لتأمين السيولة لإيران في ظل العقوبات التي تعرقل صادراتها النفطية. فلقد أصبح العراق سوقا سوداء للنفط الإيراني المهرب الذي يتم إعادة تصديره على أساس أنه نفط عراقي. وبالتالي فإن سعي واشنطن لتقويض النفوذ الإيراني في العراق سيعزز أوراق ترامب التفاوضية مع طهران. ولا حاجة للتذكير أن واشنطن فشلت طوال المراحل الماضية في لي ذراع إيران بسبب ترابط نفوذها الإقليمي من اليمن الى لبنان وغزة مرورا بالعراق وسوريا. وكانت واشنطن ترى صعوبة في تفكيك ترابط هذه الشبكات أو حتى التخفيف من قوتها. يومها حاولت إدارة باراك أوباما إدراج ملف النفوذ الإقليمي لإيران في الإتفاق حول النووي. لكن الوفد الإيراني رفض حتى مجرد التلميح بذلك. لكن الظروف إنقلبت رأسا على عقب بعد الحروب التي قامت. ففيما تسعى طهران لإنجاز اتفاق حول الساحات الإقليمية فإن واشنطن ترفض مجرد التلميح في الموضوع، وهو ما يفسر تحرك الإضطرابات في أكثر من مكان.
وفي موازاة السعي لإغلاق النوافذ المفتوحة إن في سوريا أو حتى في جنوب لبنان، يجري العمل على تلميع صورة أحمد الشرع رغم المجازر الدامية التي طالت الساحل السوري. لذلك سيشارك الشرع في المؤتمر الدولي السنوي للمانحين لسوريا والذي سيعقد في بروكسيل في 17 الجاري. وهي أول زيارة للشرع الى العالم الغربي.
وثمة حسابات إضافية لا بد من أخذها في عين الإعتبار وتتعلق بالوضع الداخلي لترامب. ذلك أن هنالك من يعتقد بأن “شهر عسل” ترامب في السلطة يشارف على نهايته. وهو ما يدفع البعض للإعتقاد بأنه سيؤدي الى فرملة إندفاعته الصاروخية، في مقابل رأي آخر يرجح العكس ويتوقع زيادة قوة إندفاعته نظرا لشخصية ترامب المتهورة. ففي آخر استطلاع أجرته كلية إيمرسون وبعد مرور 50 يوما على بدء ولايته الثانية تراجعت نسبة الناخبين الذين يوافقون ترامب على سياسته من 49% مع بداية ولايته الى 47% الآن. لكن العامل الذي يؤدي الى تراجع شعبيته يتعلق بإجراءاته الإقتصادية والتي لا يوافق عليها 48% من الناخبين في مقابل 37% يؤيدها. رغم ذلك فإن وضع ترامب ما يزال قويا.
كذلك فإن أصواتا عدة بدأت تعلو داخل إدارة ترامب وتحذر من أن سلوك المزيد من الضغوط في الشرق الأوسط قد يأتي بنتائج عكسية. فصحيح أن هذه الأنظمة لا تخشى الإنتخابات لأنها غير موجودة أصلا وإذا وجدت فهي صورية، إلا إنفلات الشارع المحتقن بسبب غزة والحروب والدماء قد يصبح قريبا. وتحذر هذه الأصوات من أوضاع الأردن ومصر. كما أنها تحذر أيضا من أن تؤدي الضغوط الإقتصادية القصوى على إيران الى انفجار الشارع في وقت لا تربد فيه واشنطن نسف النظام القائم في إيران بل فقط ترويضه وتدجينه.
كذلك هنالك عدة تباينات بين المصالح الأميركية والإسرائيلية في المنطقة. وعلى سبيل المثال فإن إسرائيل لا تأمن لتركيبة الشرع في مقابل حماية واشنطن لها في إطار الصراع الأكبر في المنطقة مع إيران. ومن هنا كلام وزير الدفاع الإسرائيلي بأن الشرع سيشاهد كل صباح من نافذة قصره الجيش الإسرائيلي. في الواقع فإن الحساسية الإسرائيلية هي من تعارض مصالحها مع تركيا. ولا بد أن تسعى إدارة ترامب من تنظيم الوضع في سوريا للحؤول دون حصول تصادم ولو محدود بين حليفيها، وهو ما ستعمل إيران على توظيفه لصالحها خصوصا في هذا التوقيت بالذات.
باختصار من الواضح أن الحركة الهجومية التي سعت البها طهران من سوريا أو الخاصرة الطرية تعمل واشنطن على إغلاقها بالتعاون مع أنقرة. كذلك وفي خطوة استباقية تعمل واشنطن على تبريد الجبهة الجنوبية اللبنانية وتمتين ركائز المعادلة الداخلية الجديدة. أما الكباش فيبدو أنه سيتوزع بين العراق واليمن قبل ولوج الإتفاق الصعب والذي عبر عنه الرئيس الإيراني بالقول لترامب: لن نتفاوض تحت التهديد، وافعل ما يحلو لك.