
على الرغم من توقف العمليات القتالية في ساحات الحرب في الشرق الأوسط إلا أن المناخ السائد ما يزال يميل الى احتمال تجدد المواجهات العسكرية. والسبب يعود الى أن التفاهمات السياسية الكبرى لم تتم بعد، وتحديدا مع إيران التي ترعى وتشرف على الفرقاء الذين يتولون المواجهة مع إسرائيل.
والمعروف أن أحد أبرز الملفات المفتوحة هو الملف النووي. وما عزز تصاعد المخاوف من تجدد المواجهات العسكرية هي المواقف والإشارات الإيرانية والتي عادت ومالت الى التشدد. فعلى الرغم من الضربات القاسية التي أصابت النفوذ الإقليمي الإيراني في الصميم، لم تظهر مواقف إيرانية حاسمة بالإقرار بالنتائج الميدانية وبالتالي القبول بالمعادلة السياسية الجديدة. لا بل فلقد بدا أن طهران تعمل على توظيف عامل الوقت وتراهن على توسع دائرة الفوضى لإعادة تعزيز أوراقها ودورها، وهو ما اشتهرت به السياسة الإيرانية دائما. أضف على ذلك رهانها على تعب أخصامها وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، ما سيجعل حركتها أسهل على الملاعب المفتوحة في المنطقة.
ففي غزة وعلى الرغم من الضربة العسكرية القاسية التي تلقتها حركة حماس، إلا أن المشروع الإسرائيلي المدعوم من إدارة ترامب والمرتكز على تهجير الفلسطينيين يلقى شجبا عربيا واسعا وشاملا، وهو ما يجعل الرهان الإيراني على عامل الوقت منطقيا. وفي سوريا أيضا ومع تصاعد التوترات الأمنية الداخلية في مناطق متعددة، تبدو الفوضى قريبة وهو ما سيفتح الأبواب أمام إيران لالتقاط بعض الأوراق وتوظيفها لصالحها. أما في لبنان فإن استمرار إسرائيل في احتلال بعض المواقع اللبنانية وفي الوقت نفسه استمرار الحصار المالي على الإقتصاد المتهالك سيشجع إيران على الرهان على عامل الوقت، من جهة لاغتنام حزب الله الفرصة بهدف إعادة تنظيم نفسه ومن جهة أخرى لجعل السلطة (والتي نشأت وفق المعادلة السياسية الجديدة) تدور في حلقة مفرغة تؤدي في نهاية المطاف الى تنفيس الأجواء المؤيدة والتي واكبت وصولها.
وما عزز هذه القناعة ليس فقط المواقف المتشددة التي أطلقها أكثر من مرة مرشد الثورة علي خامنئي، بل أيضا تلك التطورات التي شهدتها السلطة الإيرانية. فأن يجري عزل وزير الإقتصاد في اليوم نفسه الذي جرى فيه “دفع” مستشار الرئيس الإيراني محمد جواد لتقديم إستقالته، إنما يعطي مؤشرات التشدد والمواجهة.
لكن المطلعين لا يوافقون أصحاب هذا الرأي المتشائم، ويعتقدون بأن كل ما سبق إنما له علاقة بظاهر الأمور. فالأوساط الديبلوماسية الأميركية لا ترجح إبتعاد خامنئي عن طاولة المفاوضات بشكل كامل وحاسم ونهائي. وتفسيرها بأن المرحلة الحالية تحتم على الإدارة الأميركية الغرق في التفاصيل الصعبة للملف الأوكراني، وهو ما يمنح الهامش لإيران لتنفيذ مناورات تهدف اتحسين شروطها التفاوضية. وتضيف هذه الأوساط بأن هذا لا يعني بالضرورة أن يحصل تفاوض مباشر لاحقا بين واشنطن وطهران بل بأن تجري وفق الصيغ السابقة، أي مفاوضات غير مباشرة، فالأهم هي النتائج وليس الشكل. وتشير الأوساط نفسها وفي معرض تأكيد وجهة نظرها بأن قنوات الإتصال ما تزال قائمة بين واشنطن وطهران ولكن عبر أطراف مختلفة بعضها عربي وبعضها الآخر أوروبي، ومؤخرا دخلت روسيا على الخط. وتجدر الإشارة هنا الى الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الروسية الى طهران مطلع الأسبوع الفائت وحيث أعلن الطرفان الروسي والإيراني بأن الملف النووي كان حاضرا خلال الجلسة.
ولكن هذا لا يلغي التباعد الذي ما يزال قائما بين طهران وواشنطن إزاء الحلول المطروحة للملف النووي. ففيما تتحدث إيران عن حل في إطار خطة عمل شاملة فإن إدارة دونالد ترامب تحمل خطة مختلفة. ومعه لا يوجد حتى الآن أي مؤشر جدي بأن الحد الأقصى الذي تبدي إيران استعدادها لتقديمه يلائم الحد الأدنى الذي من الممكن أن تقبل به واشنطن. لذلك لم تكن من باب المصادفة استعادة المناورات والإستعدادات الجوية الإسرائيلية والأميركية فوق البحر المتوسط، والتي تحاكي ضربة جوية للمنشآت النووية الإيرانية. فمع استمرار نتنياهو على رأس السلطة في إسرائيل ووجود دونالد ترامب في البيت الأبيض فإنه لا بد من أخذ احتمال الذهاب الى الخيار العسكري على محمل الجد. وقد يكون النائب الجمهوري الأميركي والذي هو من أصول لبنانية دارين لحود أفضل من وصف سياسة ترامب حين قال: عندما يقول ترامب شيئا يجب أن نأخذه على محمل الجد ولكن من دون تفسيره حرفيا.
في الواقع ثمة معطيات أخرى تدفع إيران لوضع حسابات متأنية أكثر، وتتعلق بمشهد المنطقة والتوازنات الجديدة الناجمة عنه. فالتراجع الكبير الذي لحق بالنفوذ الإيراني في المنطقة والذي كان قد كلفها عقود من الزمن وإمكانيات مالية هائلة ذهبت كلها هباء وفي مدة قصيرة نسبيا، هذا التراجع قابله صعود للدور التركي. فأنقرة كانت تتحين الفرصة طوال السنوات الماضية لفتح أبواب المنطقة أمامها وتثبيت مواقع قوة لها، ما سيكرسها لاعبا إقليميا ومحوريا أساسيا قدرا على التوازن مع إيران من جهة وإسرائيل من جهة أخرى. وحاولت التقاط الفرصة من البوابة السورية مع اندلاع الثورة عام 2011. لكن التطورات الميدانية وتشابك اللاعبين جعل قدرة تأثيرها محدودة. وجاءت الطامة الكبرى مع الدخول العسكري الروسي عام 2015 والذي أنتج حضورا عسكريا روسيا ثابتا وفاعلا مع إنشاء قاعدتين عسكريتين مجاورتين للحدود مع تركيا. الأولى جوية ومجهزة بأحدث وسائل الرصد والتجسس في حميميم، والثانية بحرية وتشكل حلقة تواصل للأسطول الروسي في طرطوس وهو ما جعل الساحل التركي تحت الرقابة الروسية اللصيقة. وبالتالي فإن ما هدف إليه أردوغان يومها جاءت نتائجه عكسية، وهو ما جرى ترجمته فورا في “أزمة” إسقاط الروسية قبل أن يجري الإتفاق على تنظيم العلاقة.
لكن مع سقوط نظام بشار الأسد والدور الروسي الغامض، تبدلت اللعبة وأضحت الأبواب مشرعة أمام اندفاع النفوذ التركي، وعل. حساب تراجع النفوذ الإيراني وانسحابه مرغما من بلاد الشام.
وهذا الدخول التركي لم يقتصر فقط على سوريا خصوصا بعدما لمس أردوغان ضعفا في الحضور الإيراني في كامل المنطقة. لذلك وقبل أن يعمد الى تركيز قواعده في سوريا، باشر نقلته الثانية باتجاه العراق أو ما اصطلح على تسميته بحديقة إيران الخلفية. وهنالك من يعتقد أن الحركة التركية ليست استعجالا بقدر ما هي لإلهاء إيران ومنعها من تأجيج الفوضى في سوريا. وبالتالي عملت تركيا على توسيع دائرة حضورها العسكري شمالي العراق مستفيدة من انشغال طهران بصراعها المفتوح مع إسرائيل وتبادل الضربات معها.
وفي الوقت الذي سعت فيه تركيا على إجراء معالجة نهائية لملف الأكراد طالما أن الظروف ملائمة، ارتابت من وجود تشجيع لبعض القوى الكردية بعدم السير بأي تسوية مع أنقرة. وتعتقد تركيا وجود بصمات إيرانية في هذا المجال. لكن هذا الصراع الحاصل على الساحة الكردية والقائم أيضا على مصالح أمنية واقتصادية ونفطية سيبقى مضبوطا تحت سقف محدد. ذلك أن إيران “تشم” رائحة أميركية في حركة التوسع التركي، وتركيا بدورها تحاذر الإنزلاق كثيرا في وحول ستؤثر سلبا على مشاريعها ومصالحها. إذا هي منافسة قاسية ولكن مضبوطة.
واستتباعا فإن هامش المناورات الإيرانية في المنطقة لم يعد واسعا. فالطرفين الإقليميين القويين يقفان لها بالمرصاد كل من زاويته. فإسرائيل تريد اقتلاع انيابها النووية بشكل نهائي وحاسم وإعادتها الى داخل حدودها، وتركيا تريد دفعها الى الوراء ولو من دون إشهار العداء لها، ذلك أن أنقره وحدها قادرة على ملء الفراغات الناجمة عن خروج إيران من سوريا والعراق.
أما روسيا فحساباتها اختلفت، والملعب الأوروبي أصبح أكثر إغراء لها، والفرصة باتت سانحة بعد التفاهم الغامض القائم بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب. وبخلاف الإستنتاجات المتسرعة لبعض المراقبين فإن طهران لم تكن مسرورة بالمواجهة الغريبة التي حصلت في المكتب البضاوي بين الرئيسين الأميركي والأوكراني. والسبب أن كلفة “الفاتورة” والتي سيدفعها بوتين أصبحت مرتفعة بسبب المجهود الكبير الذي يقوم به ترامب في ملفي أوكرانيا وأوروبا. وزيارة وزير الخارجية الروسي الى طهران أكدت التلزيم الأميركي لروسيا في بعض جوانب الملف النووي. وبذلك تكون إيران تفقد سندا دوليا أساسيا في لعبة الكباش مع ٱدارة ترامب. طبعا فإن ذلك لن يعني انقلاب موسكو ضد طهران لأن للبلدين مصالح مشتركة وحسابات متقاطعة، إلا أنه يكفي ألا تقف روسيا في موقع المساند القوي لإيران في الملف النووي لتصبح خسابات طهران الضمنية أكثر واقعية.
ووسط هذه الحسابات المعقدة لا بد أن تكون إيران تستعد لمفاوضاتها الصعبة بعد إقفال ملف أوكرانيا، وهو ما يعطيها حيزا من الوقت يمتد لأسابيع أو ربما أشهر معدودة حيث ستعمد لتوظيفه في مناورات عالية السقف وتوجيه رسائل حامية.
كما أنه من المنطقي أن تسعى لتحسين مواقعها وتهديد المعادلات الجديدة التي نشأت خصوصا في لبنان وسوريا. وما يفتح شهيتها في هذا المضمار ظهور إشارات التفتيت في سوريا وهو المشروع الذي تريد إسرائيل تعميمه لاحقا على أرجاء أخرى. فالذهاب الى التفتيت سيعني تلقائيا رفع منسوب الفوضى وسيمنح بالتالي فرصا لإيران، خصوصا وأن تركيا ستعتبر نفسها متضررة من توسع الحضور الإسرائيلي جنوب سوريا والذي أصبح قريبا جدا من دمشق. كما أن الكلام عن توسط نتنياهو لدى ترامب لغض النظر عن الحضور العسكري الروسي في حميميم وطرطوس سيثير حفيظة أردوغان كونه سيعتبره موجها ضد الحضور التركي في سوريا. في وقت ستعمد إيران على البحث عن ممرات برية سرية في سوريا تسمح لها بتواصل ولو ضعيف ولو متقطع مع حزب الله في لبنان.
ووسط بحر التشابكات والمناورات المفتوحة إلا أنه لا بد من الإقرار بواقعية بأنه من الصعب إعادة عقارب الساعة الى الوراء. وجل ما يمكن تحقيقه هو تحسين التقاط أوراق إضافية وتحسين بعض الظروف بانتظار الصيف المقبل. أما الإعتقاد غير ذلك فلا يبدو واقعيا، أقله وسط الحسابات القائمة حاليا.