مقالات صحفية

“الحكومة والجنوب في الصراع الإقليمي” بقلم الكاتب السياسي جوني منيّر

كان من المفترض أن يشكل انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان والتغييرات الكبرى التي طالت سوريا، بداية لحقبة جديدة عنوانها ابعاد لبنان عن محاور الصراع في الشرق الأوسط وأخذه في طريق آخر أكثر استقرارا. وقد يكون تحقق العديد من مستلزمات هذه النقلة، لكن ليس كلها، وهو ما تشي به بعض خلفيات الصراع الدائر حول ولادة الحكومة وأيضا وقف إطلاق النار في جنوب لبنان.
ولا جدال بأن إيران خسرت ورقتها الإستراتيجية في سوريا، وتلقت ضربات قوية في لبنان وغزة. لكن لا يبدو أن طهران بوارد التخلي الطوعي لما تبقى من نفوذها الإقليمي لا بل على العكس فهي تتمسك بالحفاظ على ما تبقى، وتراهن على الأغلب على عاملي الوقت والظروف (وهي لعبتها المفضلة) لإعادة بناء ما تهدم، وهو ما توحي به سياستها حتى الآن على الأقل. وفي المقابل يسعى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو (وخلفه اليمين الإسرائيلي) والذي يخشى من “السأم” أو التعب الأميركي لاستغلال الظرف وتوجيه الضربة القاضية لإيران.
ولذلك يتوجه نتنياهو باكرا الى واشنطن للقاء ترامب. ذلك أن يلتقي رئيس حكومة إسرائيلية رئيس أميركي استلم لتوه مقاليد السلطة فهذا أمر ملفت. صحيح أن الزائر هو صديق حميم، لكنه يبقى غريبا بعض الشيء أن يحصل اللقاء بعد أسبوعين فقط على دخول ترامب مكتبه الرئاسي. ما يعني أن هنالك ما هو أبعد من لقاء “صديقين”. فالزيارة المبكرة تحصل بعد دعوة ترامب النافرة حول استضافة الغزاويين في الأردن ومصر، وكذلك بعد رفع الحظر عن تزويد إسرائيل بالقنابل الثقيلة وحيث اعتبرت الخطوة بأنها موجهة باتجاه إيران.
في المشهد الإقليمي تبدو إيران وكأنها تركز سياستها على أساس استيعاب الهجمة الأميركية المتوقعة. فهي تبدي مرونة سياسية لا لبس فيها، كمثل ما صرح به أخيرا وزير خارجيتها عباس عراقجي بأن بلاده على استعداد لتلقي عروض التفاوض من ترامب حول برنامجها النووي. وبموازاة ذلك ذهبت الى موقف دفاعي في اليمن حيث أعلن الحوثيون وقف استهدافهم للسفن الأميركية والبريطانية، وفي العراق أيضا حيث خفتت بشكل ملحوظ دعوات التنظيمات الشيعية الموالية لطهران لإخراج القوات الأميركية من العراق. كذلك غاب الكلام الرسمي بوجوب إنهاء مهام تلك القوات ولو وفق برنامج متدرج ومتفق عليه. وهو ما بات يرجح بقاء هذه القوات.
لكن وفي الوقت نفسه لجأت إيران الى اتفاقات مع موسكو ولو أنها بقيت في إطار الشراكة ولم تصل الى مستوى التحالف. ولفت إعلان إيران بأنها اشترت طائرات حربية روسية متطورة من نوع سوخوي35، وهو ما يؤشر ضمنا الى تعويض خططها الدفاعية بعد اختبار عسكري فاشل لخطتها القديمة، مرة بعد خسائرها الجسيمة في غزة ولبنان وسوريا، ومرة أخرى بع الضربات التي تلقتها منظومة الدفاع الجوي خلال العملية الجوية الإسرائيلية الأخيرة. لكن الخبر أن إيران تستعد أيضا لاحتمال تجدد المواجهة العسكرية.
وانطلاقا مما سبق فإن نتنياهو المحاصر داخليا يعتقد بأن هنالك لحظة نادرة وفرصة تاريخية يجب التقاطها لاستكمال مشروع القضاء على النظام القائم في إيران. ويدعم العديد من رجال إدارة ترامب هذا التوجه، ما سيسمح بإعادة تشكيل المنطقة برمتها.
في الواقع تتحضر إدارة ترامب لإنجاز صفقة مع طهران ترتكز على ثلاثة أضلع:
_ البرنامج النووي
_ وقف الدعم الإيراني لحلفائها بغية تقليص قدراتهم الى أدنى حد ممكن.
_ إعادة تشكيل الخارطة السياسية للشرق الأوسط.
وصحيح أن ترامب كان توعد مرارا بأنه سينفذ سياسة الضغوط القصوى على إيران واقتصادها المتهالك، لكنه بدا واضحا أنه لا يريد التورط في حرب إقليمية، وأن سلاحه الوحيد هي العقوبات الإقتصادية لإجبار إيران على التفاهم على ركائز جديدة لسياستها. لكن ترامب نفسه لم يستبعد الإستعانة بالقدرة العسكرية لإسرائيل في حال تطلب الأمر ذلك، وهنا بيت القصيد.
ومن هذه الزاوية تسعى إيران الى تفعيل سلاح جوها بعد الضربات التي طالت دفاعها الجوي، والى شبك مصالحها مع مصالح روسيا التي خسرت مواقعها في سوريا وباتت مصالحها تفرض عليها الإقتراب أكثر من طهران.
وعندما غزا الجيش الأميركي العراق عام 2003، شعرت إيران بمخاطر استراتيجية كبيرة وباشرت بتكثيف جهودها الدفاعية من تطوير أنظمة الصواريخ الى الطائرات المسيرة ووصولا الى البنية التحتية المحصنة.
لكن الحصانة التي تتمتع لها إيران لا تنحصر بقدراتها العسكرية الدفاعية فقط بل بالمصالح الدولية وخصوصا الأميركية ما يحول دون اخذها الى الفوضى. فإيران بمساحتها البالغة 1,6 مليون كلم مربع والغنية جدا بالمواد الأولية تتجاور مع 13 دولة وتستطيع التحكم بمضيق هرمز الذي تمر عبره 20% من امدادات النفط العالمية. ما يعني أنها بحدودها الحاضرة تعتبر ذات موقع فائق الأهمية وقادر على لعب دور أساسي في خطة مناكفة واحتواء التمدد الصيني. لكن ثمة ما هو أبعد وهو ما يراهن عليه نتنياهو أغلب الظن. فترامب المتفق مع رئيس الحكومة الإسرائيلية على إنهاء البرنامج النووي الإيراني واستكمال التصدي لها و”لأذرعها” في المنطقة لترسيخ واقع نهائي جديد. لكن نتنياهو يتمنى جر ترامب الى مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران. وقد يكون قيامه بفتح الملفات الداخلية الخطيرة يساعد في هذا الإتجاه. فالرئيس الأميركي باشر مغامرته الداخلية بتغيير بنية النظام الفائم تحت شعار البدء بالإصلاحات الداخلية. وهذه المغامرة الصعبة والدقيقة تحمل مخاطر اندلاع فوضى داخلية عارمة. والمعروف تاريخيا أن هروب الرئيس من المصاعب الداخلية يدفع به الى التحديات الخرجية بما فيها الحروب. وقد يكون هذا هو رهان نتنياهو.
واستطرادا فإن لبنان عالق في الكباش التقليدي بين سلطة ما تزال في أول انطلاقتها وفق المسار الجديد الجاري تثبيته، وبين حزب الله الذي يحاول ليس فقط وقف المسار التراجعي بل أيضا استعادة بعض أوراق القوة في الداخل لمنع التلوينة الإقليمية الجديدة.
في الجنوب اندفع حزب الله في مسعاه بعدم الرضوخ بطريقة أو بأخرى لقرار خروجه من الساحة. وإذا كانت القدرة العسكرية غير متوفرة حاليا لأسباب مختلفة فالحضور السلمي الشرس قد يكون قادرا على تأمين المطلوب. هذا مع العلم أن اسرائيل والتي باشرت برفع مستوى السخونة في الجنوب وربما مستقبلا في العمق اللبناني، لا تبدو في وارد الإنسحاب قريبا. ما يعني أن المهلة الجديدة هي مهلة صورية طالما أن الأمور لم تحسم بعد بشكل كامل على مستوى المنطقة مع إيران، وهو ما ينذر باحتمال استمرار الصغوط على أشكالها على لبنان.
وفي اللعبة الداخلية إذا كان هنالك من خسائر على مستوى رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة فإنه لا بد من التعويض على مستوى التركيبة الحكومية، ومن هذه الزاوية يجري التطلع الى الحصة الشيعية ووزارة المال. لا بل أيضا ثمة همس بأن حزب الله اشترط أن تمنح حقيبة الأشغال من بعده للإشتراكي. وهذه النقاط أثارت “الرعاة” الجدد للساحة اللبنانية ما أدى الى تأخير ولادة الحكومة اللبنانية. إذا الكباش الحكومي ظاهره صراع داخلي على حقائب وحصص، لكن خلفيته الفعلية تتعلق بتثبيت المعادلة الجديدة أو إجهاضها.
ومن هذه الزاوية جرى قراءة “انتفاضة الموتوسيكلات” والتي حملت رسائل عدة أبرزها على الإطلاق أن قدرتنا على المشاغبة والتلويح بالفوضى ما تزال كبيرة ولم تتبدل.
وقريبا تزور الموفدة الأميركية الجديدة لبنان في زيارة طابعها تقني وإداري أكثر منه عملي. وبعد ولادة الحكومة وحتى بعد تاريخ 18 شباط من المحتمل أن يزور لبنان موفد ترامب مسعد بولس في زيارة بمهمة سياسية. لكن الأهم تلك التطورات التي من المفترض أن تشهدها الملفات المفتوحة مع إيران والتي ما يزال يخضع لبنان لتأثيراتها المباشرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى