
بغض النظر عن التعقيدات التي تظهر تباعا والتي تؤدي الى عرقلة الولادة الحكومية، يبقى الملف الأساس ما يتعلق بكيفية تركيز المشهد اللبناني الجديد بعد التبدلات الكبيرة التي حصلت على مستوى المعادلة الداخلية ولاسيما الحجم الجديد لحزب الله، الى جانب المشهد الإقليمي العريض وسط المتغيرات الهائلة والتي طالت ما كان يعرف بالنفوذ الإقليمي لإيران.
وبعد دخول دونالد ترامب الى البيت الأبيض لولاية رئاسية ثانية، تتركز الأنظار على خط العلاقة بين واشنطن وطهران خصوصا بعد أن كان ترامب قد تحدث مرارا عن ذهابه لتطبيق سياسة الضغوط القصوى على إيران لدفعها الى تفاهمات وتسويات كاملة. ولذلك كانت طهران قد استبقت بدء الولاية الثانية لترامب بعقد اتفاقات شراكة مع روسيا في مجالات عدة بينها المجال الدفاعي خلال زيارة الرئيس الإيراني الى موسكو. لكن هذه الشراكة بقيت ناقصة ولم تصل الى مستوى التحالف، وهو ما بدا أن الكرملين يتمسك به تجنبا لإغضاب ترامب.
وبعد أن كان وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي قد اعتبر أن المانيا وفرنسا وبريطانيا “جادة” في سعيها لاستئناف المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني برزت كلمة نائب الرئيس الإيراني للشؤون الإستراتيجية محمد جواد ظريف خلال المنتدى الإقتصادي العالمي المنعقد في دافوس في سويسرا حيث قال أن بلاده لم تكن على علم بهجوم حماس في السابع من أوكتوبر لا بل أنها تفاجأت وصدمت. وكلام ظريف يمكن اعتباره تنصل رسمي من عملية “طوفان الأقصى” وفي الوقت نفسه إشارة مرنة باتجاه واشنطن. كما أن موقف عراقجي هو بمثابة إشارة تعكس روحية التفاوض والمرونة لا الصدام والمواجهة.
وعلى الرغم من أسلوبه المباشر وعباراته الحادة والقوية إلا أن الإنطباع العام عن شخصية ترامب هي بأنه رجل تسويات وصفقات لا الحروب والمواجهات. واستذكر البعض ما حصل بينه وبين زعيم كوريا الشمالية خلال ولايته الأولى. فبعد التهديد والوعيد حصل اللقاء بين ترامب ونظيره الكوري الشمالي بأجواء إيجابية وجرى التقاط الصورة التذكارية ليصف بعدها ترامب كيم جونغ أون بالصديق. واستطرادا فإن طهران التي تستعد لمزيد من الضغوط ترى أن التسوية لن تكون بعيدة قبل أن ينقل ترامب تركيزه الى مناطق أخرى وملفات داخلية أكثر الحاحا. وبات معروفا أن ترامب يحمل ملفات ثلاث مع إيران: البرنامج النووي والصواريخ والنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. عدا ذلك هو يتطلع لتعاون إقتصادي لا بل أكثر مع إيران الدولة الغنية بمواردها الذاتية، والتي تحتاج الى كل أنواع الإستثمارات الخارجية والكفيلة بتعزيز الحركة الإقتصادية لدول عدة.
لكن قبل ذلك على إيران الإلتزام بالخروج وعدم العودة الى ساحات نفوذها المعروفة وخصوصا في لبنان وفلسطين وسوريا. والمقصود هنا عدم السعي لإعادة بناء قدراتها العسكرية، وهنا نقطة الإلتباس الكبرى بين غض النظر عن العلاقة السياسية والدعم العسكري الذي كان قائما. صحيح أن خطوط الدعم والإمداد لإعادة بناء القدرات العسكرية التي جرى تدميرها لم تعد قائمة والمقصود هنا سوريا، إلا أن ذلك لن يعني ترك الأمور على غاربها. ذلك أن واشنطن تريد تثبيت خارطة النفوذ السياسي الجديدة في المنطقة والتي جرى رسمها بالحروب وإعادة صياغة علاقات جديدة مع إيران والتي تشكل موقعا مهما لمنع الطموح الصيني من التمدد باتجاه البحر المتوسط أو حتى من خلال آسيا الوسطى باتجاه أوروبا.
ولم تكن أبدا مصادفة زمنية إطلاق بنيامين نتنياهو عملية “الجدار الحديدي” في جنين في الضفة الغربية. فالعملية تشكل امتدادا واستمرارية للحرب القائمة منذ أوكتوبر 2023، وهي تعتبر المرحلة الثالثة في سلسلة الحروب بعد غزة ولبنان. وهو ما يرفع منسوب القلق من أن تكون نتائجها مشابهة لما هو حاصل فب غزة. أي أن يكون الهدف “تهشيل” الفلسطينيين وإرغامهم على ترك أملاكهم في إطار ترسيخ واقع الدولة اليهودية، وإلا فما هو تفسير قيام الجيش الإسرائيلي بتجريف الشوارع وطرق المواصلات وتدمير البنى التحتية التي تحتاجها الأماكن السكنية؟
وللمفارقة فإن وزير الخارجية الأميركي الجديد ماركو روبيو معروف عنه بأنه المدافع الأول عن سياسة الإستيطان والحرب التي شنتها إسرائيل على غزة. أضف الى ذلك ما ردده ترامب نفسه بأنه “غير واثق” من صمود هدنة غزة حتى نهاية مراحلها الثلاث، ولو أنه يعتقد بأن وقف النار في لبنان سيصمد.
ووفق ما سبق فإن الصورة تصبح أوضح لناحية مسار الأمور مستقبلا. أي ترتيب صفقة سياسية_إقتصادية_أمنية شاملة وكاملة بين واشنطن وطهران، وفي موازاة ذلك تستمر إسرائيل في مشروعها لتغيير الواقع الفلسطيني والسعي لتصفيته وصولا الى واقع جديد. أما في لبنان فتثبيت الوقائع الجديدة و”صقلها” في معادلة جديدة ستشكل عنوان المراحل القادمة.
وانطلاقا مما سبق يصبح مفهوما تركيز الأوساط الديبلوماسية على الثوب الجديد الذي سيلبسه حزب الله. فبخلاف ما جرى تداوله خلال الأسابيع الماضية إلا أن حزب الله لم يبدأ بعد في خطة إعادة تنظيم بنيته كون الظروف ما تزال “حربية” حتى الساعة طالما أن هدنة الستين يوما ما تزال سارية المفعول وأن إسرائيل لم تستكمل انسحابها من لبنان إيذانا بطي صفحة الحرب نهائيا. ولهذا السبب لم يجر بعد تحديد موعد تشييع السيد حسن نصرالله. لا بل أن كوادر حزب الله ما زالوا يتواصلون مع بعضهم البعض بعيدا عن أجزة الهاتف أو الأجهزة اللاسلكية تجنبا للرصد الإسرائيلي. فبالنسبة لهؤلاء فإن الحرب ما تزال مفتوحة، وربما ستقدم إسرائيل جريا على عادتها على توجيه ضربات مفاجئة قبل انتهاء انسحابها من لبنان. فهذا هو سلوكها دائما ما يستوجب الحذر. وبالتالي فإن فتح ورشة إعادة التنظيم يتكون متروكة للمرحلة اللاحقة.
ومن المنطقي الإعتقاد بأن الهامش الذي كانت تمنحه إيران لحزب الله أصبح أضيق بكثير من السابق لسببين رئيسيين: الأول بعد غياب قامة بحجم السيد حسن نصرالله، والثاني بعد انتهاء الدور القيادي لمحور المقاومة والذي لعبته الضاحية الجنوبية إثر التدمير والإغتيال الذي لحق بمقارها وكوادرها.
في هذا الوقت سيستمر الشيخ نعيم قاسم في مهامه وسيشرف على العلاقة الجديدة ما بين طهران وحزب الله، خصوصا وأن ثقة طهران به إرتفعت بعد أن رفض دعوة إيران له بمغادرة الأراضي اللبناني والإنتقال الى إيران في عز الحرب خشية اغتياله، ومعتبرا بأنه ليس أفضل من الذين سبقوه، وذلك بخلاف أسماء أخرى كانت مرشحة لتولي موقع الأمانة العامة والتي انتقلت من لبنان الى إيران.
لكن النقاش حول الأخطاء التي أدت الى النتائج المعروفة ما يزال دائرا داخل أروقة حزب الله. وإذا كان محمود قماطي قد باح علنا ببعض هذا النقاش إلا أن المطلوب إبقاءه بعيدا عن التداول الإعلامي لعدم منح ذخيرة مجانا لأخصام الحزب. وهذا ما يفسر البيان التوضيحي الذي صدر إثر كلام قماطي.
وبعيدا عن النقاش حول مراجعة أخطاء المرحلة الماضية إلا أن السؤال الأهم هو حول مستقبل العمل العسكري لحزب الله في ضوء نتائج الحرب والمعطيات الحالية. واستتباعا قد يكون حزب الله اقتنع (ومعه إيران) بأن الجسم العسكري الضخم الذي كان قائما أصبح من الصعب إعادة بناءه. فعدا الضربات القاسية التي تلقاها كادره القيادي وتركيبته الأساسية فإن إعادة “تذخيره” بالمستويات الصاروخية النوعية أصبح متعذرا وصعبا بعد ما حصل في سوريا. وبالتالي فإن إعادة البناء تستوجب أولا الذهاب الى مجموعات منتشرة وليس جيشا مترابطا كما كان قائما. وثانيا أن يجري بناؤها تحت الأرض وبسرية تامة تماما كما في الأيام الأولى لنشوء حزب الله.
وعملية إعادة البناء ستأخذ وقتا طويلا دون شك وتمتد لسنوات عدة، هذا إذا سمحت الظروف. وعدا الإستعداد بوجه إسرائيل فثمة هدف آخر أصبح يشكل أولية لدى بيئة حزب الله، والمقصود هنا الانتعاش الذي لحق بالتنظيمات المتطرفة والتي ينمو بعضها بسرعة بعد التطورات في سوريا.
وليس المقصود هنا نوايا السلطة الجديدة في سوريا، بل المناخ الذي يدفع لتعزيز وضع التنظيمات الإرهابية. فالوفود اللبنانية التي زارت دمشق والتقت أحمد الشرع أبدت إعجابها بشخصيته وثقافته وسعة إطلاعه. لكنها لمست على الفور قلق المجموعة المساعدة له من احتمال حصول اختراق لداعش ويؤدي لاستهداف واغتيال الشرع. وهو ما يعكس خطر نمو المجموعات الإرهابية. وبالتالي فإن الترابط موجود بين الساحتين ما يستوجب الحذر أيضا.
وخلال الأيام الماضية حصلت عدة احتكاكات واشتباكات بين العشائر اللبنانية والجانب السوري. صحيح أن للعشائر وجودها وأن أعمال التهريب تؤدي عادة الى مثل هذه الإحتكاكات، لكن ما هو غير منظور أن عناصر لحزب الله تعمل تحت عباءة العشائر وأن عناصر متطرفة موجودة بين القوى عند الجانب السوري.
خلال الزيارة الأخيرة للرئيس الفرنسي الى لبنان بدا إيمانويل ماكرون متفائلا بشدة بمستقبل لبنان، لكنه استدرك بالقول بوجوب أخذ الحذر من المتضررين من المسار اللبناني الجديد. وقد يكون فاته القول عن وجود تقاطع بين العديد من المتضررين.