
أصبح واضحا لدى الجميع أن لبنان يمر بمرحلة حاسمة في تاريخه الحديث ستشكل القاعدة التأسيسية لحقبة جديدة يجري بناؤها بالتناغم مع إعادة تكوين الخارطة السياسية الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط. لذلك من المنطقي أن تشهد المرحلة الحالية كسر القواعد التي كانت قائمة سابقا، وهو ما تظهر مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية ووصول رئيس جديد للحكومة.
لذلك استبق وصول العماد جوزف عون الى قصر بعبدا حراك صاخب وولادة قيصرية، كما احاط وصول شخصية مثيرة للجدل مثل نواف سلام الكثير من اللغط والقطب المخفية. وبات معروفا أن رئيس المجلس النيابي كان قد طلب من وزير الخارجية الفرنسي خلال زيارة الأخير الى بيروت في عز الحرب ما اعتبره يومها “تطمينات” مقابل انتخاب العماد جوزف عون رئيسا للجمهورية، وذلك من خلال وساطة فرنسا مع السعودية لإزالة الفيتو الموضوع على ميقاتي. وجاء لاحقا الجواب الفرنسي إيجابا عبر القول بأن باريس نجحت في إزالة الإعتراض السعودي، لكن هذه الحكومة الأولى ستكون لمرحلة إنتقالية وستشرف على الإنتخابات وبعدها ستكون هنالك حكومة أخرى برئاسة نواف سلام وهي التي سيجري منحها المساعدات الدولية والإستثمارات الخليجية المنتظرة. لكن الإستشارات التي كان من المفترض أن تكون “محبوكة” أدت الى نتائج مختلفة، ما حدا بالفريق الشيعي القول وهو في حالة صدمة بأنه تعرض لخديعة. وتعددت الروايات والتكهنات حول خلفيات “الإنقلاب” الذي حصل.
بداية كانت هنالك الرواية النيابية ومعها تأكيدات سعودية بأن ما حصل إنما لم يكن نتيجة توجيه خارجي أو كلمة سر سعودية، بل أنه جاء في إطار اللعبة الداخلية وإثر مراكمة العديد من المعطيات ما جعل اللعبة تتجه الى نتيجة غير محسوبة سلفا. وبالنسبة لهؤلاء فإن المزاج الجديد الذي واكب وصول العماد جوزف عون الى قصر بعبدا، أرسى صدمة وأعطى دفعا معنويا للذهاب في الإتجاه نفسه. وبالتالي فإن ظهور تأييد الثنائي الشيعي لنجيب ميقاتي لعب ضد مصلحته. أضف الى ذلك الأثقال التي حملها ميقاتي جراء الحملات الإعلامية طوال العامين المنصرمين، جعلت من السهولة بمكان خلق واقع واسع معارض له ويعمل على إسقاطه عبر البحث عن إسم “لماع”. كذلك فإن حال الفوضى التي سادت “جبهة” المعارضة لناحية تسميات مقبولة دفعت بالبعض للذهاب باتجاه نواف سلام وهو ما أدى الى كرة ثلج تدحرجت بسرعة ووصلت الى النتيجة التي ظهرت.
لكن الثنائي الشيعي متأكد بأن ما حصل أبعد بكثير مما يروى، وأن لهذه الخطوة أبعادها ومعانيها السياسية والتي تصب في إطار ترسيخ الإنعطافة الجديدة. وتتساءل هذه الأوساط كيف يمكن تفسير إقدام سلام على إعلان ترشيح نفسه قبل أن تظهر أي تبدلات داخلية تجاهه، وهو المعروف عنه عدم انزلاقه باتجاه أمور غير مضمونة، وهذا ما يفسر إحجامه عن إعلان ترشيح نفسه لرئاسة الحكومة في المرة السابقة رغم العديد من النواب دعمهم له، وأيضا عدم انزلاقه باتجاه ترشيح نفسه للإنتخابات النيابية عن دائرة بيروت وترؤس لائحة الثورة وفق ما عرض عليه يومها.
وتضيف هذه الأوساط أنه من البديهي أن يكون دافع سلام هذه المرة قرار كبير جرى تحقيقه لاحقا. وتعتبر الأوساط نفسها أن الهدف هو باستكمال الاستدارة الحاصلة وهو ما أدى الى ردة الفعل الشيعية.
لكن ثمة قراءة ثالثة ومن زاوية أخرى. ذلك أن أوساط ديبلوماسية مطلعة ورغم أنها لا تنفي دخول لبنان في حقبة جديدة عنوانها “إنهاء” المرجعية الإيرانية في لبنان من خلال “تصفية” كل القواعد التي كانت تعتمد سابقا في اللعبة الداخلية، إلا أنها تحدثت عن حصول أخطاء ساهمت في اختصار المرحلة الإنتقالية التي كان سيتولاها ميقاتي والذهاب فورا الى المرحلة التأسيسية مع نواف سلام.
ووفق مصادر ديبلوماسية مطلعة فإن باريس حين نقلت عرض الرئيس بري حول “التطمينات” التي يطلبها الثنائي الشيعي من خلال عودة ميقاتي، إجتهدت خطأ الجواب السعودي. فيومها اكتفى المسؤولون السعوديون بالصمت ردا على ما نقله الفرنسيون. وفسرت باريس الموقف ٱيجابا وعلى قاعدة أن السكوت علامة الرضى. لكن الحقيقة لم تكن كذلك تماما، وهنا جرى ارتكاب الخطأ الأول. أضف الى ذلك أن الرياض ربما تكون مرتابة من “تشويش” إن على مستوى التركيبة الوزارية أو على مستوى العبارات التي ستستخدم في البيان الوزاري، وحيث بات لميقاتي ووزراءه خبرة لا بأس بها تسمح له بالتعاون مع الرئيس بري على حياكة القطب المخفية ببراعة في وقت سيتعذر فيه على الفريق الجديد اكتشافها بسهولة أو ربما بعد فوات الأوان.
لكن ثمة ملاحظة تؤشر الى أن “كلمة السر” في حال صح وجودها، فهي جاءت متأخرة جدا ما جعل بعض النواب يبدأون بالتسمية من دون معرفة وجهة الريح. والتفسير هنا بأنه في هذه الحالة فإن القرار اتخذ على عجل ولم يكن محضرا سابقا. واستتباعا لا بد من السؤال عن الخطأ الثاني الذي أدى المفاجأة المدوية. وساد همس في بعض الأروقة أنها قد تكون الزيارة التي قام بها الرئيس ميقاتي الى دمشق. وقد لا تكون الزيارة بحد ذاتها تشكل حركة نافرة بقدر طريقة حصولها. ذلك أنه تردد بأن الزيارة تمت عن طريق الرئيس التركي أردوغان، في وقت تقدمت فيه السعودية باتجاه دمشق وفي حركة مستقلة ومنفصلة عن تركيا الساعية لترسيخ نفوذها الواسع في سوريا.
وعلى الرغم من أن هذه الزيارة لم تثمر قرارات مهمة، لا على مستوى الغاز ولا ترسيم الحدود ولا جر الكهرباء الى لبنان عبر سوريا، إلا أنها قد تكون أثارت بعض الحساسية في وقت يجري فيه ترسيخ خطوط النفوذ في الخارطة الجديدة.
لكن، ما كتب قد كتب. والسؤال الآن هو حول كيفية احتواء الوضع الداخلي ومع انطلاقة عهد واعد يحتاج إليه لبنان واللبنانيون لإعادة لملمة حطام دولتهم ومؤسساتهم؟
في الواقع ثمة نقاش واسع يدور داخل الدائرة الشيعية حول كيفية التعاطي مع مسلسل “النكسات” الذي يتعرض له الثنائي الشيعي. فهنالك وجهة نظر تقول بأن الواقعية تفرض الذهاب الى عقد تفاهم سياسي وفق المعطيات والظروف التي استجدت، وذلك لتدارك أي أثمان إضافية قد تدفع لاحقا. فالمعادلة العريضة في المنطقة تغيرت وليس المعادلة اللبنانية فقط. والسند الإقليمي أي إيران تعاني وتتحضر لمرحلة ترامب. لا بل هي تنادي وعلى لسان رئيسها بالسلام وبأنها لا تريد المزيد من الحروب. كذلك وفي السياق نفسه فإن غزة التي عانت حربا هستيرية قضت على الأخضر واليابس تتحضر لإعلان لوقف إطلاق نار طال انتظاره، ما يعني بأن الظروف تسووية لا تصادمية. ولا بد من أخذ العبر من مرحلة مشابهة على المسيحيين في العام 1990 حين خرجوا خاسرين من الحرب واستكملوا خسارتهم العسكرية بخسائر سياسية عندما قاطعوا الدولة ومؤسساتها، ما فتح الباب أمام خروجهم من مؤسسات الدولة، وهو ما شكل ضربة كبيرة لهم يومها. واستطرادا فإن التجربة المسيحية تدفع بنا الى عدم الذهاب الى الخيار السلبي ومقاطعة الحكومة، خصوصا وأن ملف “الشغب” ميدانيا وبكافة أشكاله لم يعد متوفرا كونه يصبح انتحارا كاملا في الظروف الحالية. أضف الى ذلك أن الإدارات الرسمية شاغرة وهنالك مئات المواقع التي لا يجوز تركها لفريق شيعي جديد يتحضر ليتكون.
لكن الرأي الآخر ولو أنه يقر بالعديد من النقاط التي وردت إلا أنه يرى أن الوضع قد يكون بحاجة الى صدمةةقد تكون هي السبيل الوحيد لوقف مسلسل التراجعات. وبالتالي فإن عدم المشاركة في الحكومة سيجعل الحكومة عرجاء وفي الوقت نفسه سيعزز الموقع المعنوي للثنائي الشيعي ليس فقط على مستوى الشارع الشيعي بل ربما أيضا على المستوى الوطني. ذلك أن المعروف بأن المعارضة تستقطب شعبيا، والإنتخابات النيابية على الأبواب. وبالتالي فإنه من الأفضل العودة بعد الإنتخابات مع “سكور” مرتفع ويكون العهد قد دفع من رصيده واستنفد بعض زخمه ما يجعل الظروف أفضل وقادرة على تعويض الخسائر التي حصلت.
ويبدو أن الرئيس بري يميل الى الخيار الثاني رغم الأصوات المحيطة به، وعلى أساس أنه تعرض لخديعة لا يمكنه “بلعها”.