نظرة سريعة على الساحات التي شكلت إمتدادا لنفوذ إيران الإقليمي والتي ألهبتها المواجهات والحروب تظهر بأن طهران والتي أخذت وضعية الدفاع تعمل على التدارك المسبق لعاصفة الضغوط القصوى التي لوح بها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، والتي من المفترض أن يدشن بها ولايته الرئاسية الثانية.
ذلك أن إيران والتي باغتها الميدان وافقت على اتفاق وقف النار في لبنان رغم شروطه الملتبسة، كما أنها سلمت بخسارتها لسوريا وخرجت بأقل قدر من الضجيج والضوضاء، وهي تشجع حركة حماس على ما يبدو على القبول بصفقة في القريب العاجل تقضي بتبادل الأسرى والرهائن المحتجزين بعد زهاء 14 شهرا من الحرب المدمرة ولو بشروط كانت قد رفضتها حماس سابقا. أما في العراق فالكلام يتصاعد حول ضرورة حل كل التنظيمات خارج إطار مؤسسات الدولة والمقصود هنا تحديدا الحشد الشعبي أو الذراع الإيرانية في العراق. كل هذا يعزز الإنطباع بأن إيران والتي تتخذ وضعية الدفاع تعمل قدر المستطاع على محاولة استيعاب الهجوم الذي يطال نفوذها في الشرق الأوسط والذي عملت على بناءه طوال العقود الثلاثة الماضية والذي استثمرت فيه موازنات ضخمة، ووفق سياسة الحد قدر الإمكان من الخسائر.
وبموازاة ذلك لفت الكلام الصادر عن مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي والذي اعتبر فيه أن الإتفاق النووي المبرم عام 2015 “أصبح بلا جدوى”، داعيا لاتفاق دولي جديد يتناسب مع الحقائق النووية الجديدة في إيران والتي قال عنها أنها تقوم بتخصيب اليورانيوم بدرجات نقاء قريبة من السلاح النووي ما يجعلها تقترب بسرعة من أن تصبح دولة نووية.
ولا شك أن كلام غروسي يعطي مؤشرات مبكرة حيال العاصفة السياسية التي يحضرها فريق ترامب تجاه إيران، خصوصا وأن مواقف لعدد من المسؤولين الإسرائيليين وكبار الضباط تحدثت عن اكتمال التحضيرات للقيام بضربة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية. ولا يجب أن يغيب عن بالنا بأن ترامب كان قد شجع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على اغتنام الفرصة وضرب المنشآت النووية الإيرانية وذلك خلال التحضير للرد الإنتقامي الإسرائيلي الأخير ضد إيران. وهو ما يعزز المخاوف الإيرانية حول جدية خطوة ترامب.
صحيح أن الإنطباع الغالب هو بأن ما يحصل يندرج في إطار تحضير المسرح لمرحلة الضغوط القصوى على إيران أكثر منه تنفيذ التهديدات إلا أن أحدا لا يستطيع ضمان بقاء الأمور في خانة الضغوط وعدم ذهابها الى التنفيذ. فمن جهة هنالك نتنياهو واليمين الإسرائيلي المتطرف وقناعتهما القائمة على ضرب النووي الإيراني ومن جهة أخرى هنالك دونالد ترامب المؤيد لإسرائيل والذي لا يستسيغ فكرة تكريس إيران كقوة إقليمية ونووية.
وهو ما يعني أن عامل الوقت والذي اشتهرت السياسة الإيرانية بتوظيفه بطول صبر لصالحها بات يعمل ضدها. وعلى سبيل المثال لو قبلت حركة حماس بالشروط المطروحة سابقا لكانت ظروفها أفضل مما هو مطروح حاليا من دون شك. ولو قبل حزب الله بما طلبه آموس هوكشتاين خلال مرحلة “حرب الإسناد” بانسحابه الى مسافة ثلاثة لكانت النتيجة أفضل بما لا يقارن بالإتفاق الذي رسا لاحقا. ولو قبل الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد بدعوة موسكو لحوار مع تركيا ولو من دون طهران والإلتزام بالمطالب المطروحة لكان بقي في دمشق وبقي نفوذ إيران ولو بدرجة أقل. والأهم لو التزم بضبط الحدود والمعابر غير الشرعية لكانت النتيجة أفضل مما هو حاصل الآن. ولذلك ربما يسعى العراق لاستباق الوقت والذهاب الى ترتيبات معقولة.
ووفق ما تقدم تسعى إيران لاحتواء “عاصفة ترامب” قبل أن تهب، خصوصا وأنها اختبرته سابقا خلال ولايته الأولى حين تجرأ ترامب على اغتيال مهندس سياسة “تصدير الثورة” وباني مشروع وحدة الساحات قاسم سليماني في عملية خشي من نتائجها نتنياهو نفسه ما دفعه للإنسحاب منها قبل 24 ساعة على تنفيذها وفق اعترافات ترامب نفسه.
وطالما أن السياسة الإيرانية تقضي باستباق الوقت وإنجاز ما يمكن إنجازه قبل العشرين من كانون الثاني المقبل موعد دخول ترامب الى البيت الابيض فمن هذه الزاوية يمكن فهم تمسك الثنائي الشيعي بإنجاز الإستحقاق الرئاسي قبل نهاية ولاية جو بايدن. صحيح أن رأيا آخر كان قد دعا لتأخير الإستحقاق الرئاسي اللبناني الى حين الوصول لموعد المفاوضات بين واشنطن وطهران بعد فترة الأسابيع العاصفة بين واشنطن وطهران إلا أن الإتجاه الذي غلب هو باستباق نتائج العاصفة وإلا “سنكون نخاطر بوصول رئيسا لا على البال ولا على الخاطر”.
ووفق ما تقدم فلا بد أن يكون الزعيم الدرزي وليد جنبلاط قد سمع شيئا من هذا القبيل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (والذي لا توجد مودة بينه وبين ترامب) خلال زيارته لباريس وجاء يحمل نصائح فرنسية لرئيس المجلس النيابي نبيه بري.
فالأجواء الدولية باتت واضحة بأنها تدعم وصول قائد الجيش العماد جوزف عون الى قصر بعبدا بدءا من واشنطن ومرورا بباريس والفاتيكان وأخيرا وليس آخرا السعودية. فالأجواء الدولية والتي باتت تشرف على تأمين الإستقرار اللبناني عبر اللجنة الخماسية في الجنوب والتي ستتولى رعاية مرحلة النهوض الإقتصادي وإعادة الإعمار المكلفة جدا، تبدي قناعتها بأن الإختبارات القاسية والصعبة التي خاضتها قيادة الجيش طوال السنوات الماضية كما الإختبار العسكري الصعب تعطي لقائد الجيش أفضلية الدخول الى قصر بعبدا للإشراف على الورشة المنتظرة ولمتابعة تنفيذ القرار 1701 والبنود المضافة إليه.
وكان من المتوقع أن تعمل إيران على معارضة هذا التوجه. فهي تطمح لتكريس المعادلة الدولية التي جاء على أساسها العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية عام 2016، أي أن تكون طهران (والحلفاء) لا واشنطن هي من تسمي الرئيس اللبناني وترعى آلية عمل الدولة اللبنانية، ومن هنا كانت ورقة الأسماء التي حملها الرئيس بري. وقد تكون طهران رغبت بأكثر من ذلك في السابق، أي بأن يجري تعديل صيغة الحكم في لبنان بما يؤدي الى نظام سياسي جديد بأرجحية شيعية، وهو ما يعتقده العديد من المراقبين بأنه الهدف الحقيقي للفراغ الرئاسي.
واستتباعا فإن طهران التي اعترضت على وصول قائد الجيش الى الرئاسة مع الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي الى بيروت خلال الحرب قد تكون بدأت ترى في الرهان على الوقت عاملا سلبيا.
ولا بد من النظر أيضا الى الساحة السورية والتي أحدثت مستجداتها إنقلابا على المشهد اللبناني. فأهداف الرئيس التركي أردوغان في سوريا ما تزال غامضة: ماذا يريد فعلا؟ هل بسط نفوذه الإقليمي لغايات إقتصادية وأمنية؟ أم أنه يسعى لضم مناطق واسعة الى الأراضي التركية؟ أم أنه يريد استخدام سوريا كمنصة انطلاق للوصول الى الخليج؟
وفي الوقت نفسه من هو صاحب القرار الفعلي في سوريا؟ هل هو أحمد الشرع أم هنالك مراكز نفوذ داخلية أخرى قوية تتحكم ببعض جوانب القرار العسكري؟ وهنالك أسئلة آخرى حول مصير العناصر المتطرفة وخصوصا الأجنبية منها والتي قاتلت تحت راية “هيئة تحرير الشام”. كذلك حول العلاقة مع الأكراد. علما أن المواقف السياسية المعلنة للشرع تبدو واعدة وتلقى تأييدا غربيا وعربيا.
واستطرادا فإن ما حصل في دمشق أعطى شحنة قوية للشارع السني في لبنان، وهي موجهة باتجاه إيران وبطببعة الحال حزب الله. ومع هذه الحدود اللبنانية-السورية الهشة فإن مخاطر ارتفاع مستوى التواصل اللبناني السوري يصبح عاليا. ما يعني أن من كان لمصلحته إبقاء الفجوات الواسعة على الحدود البرية أصبحت مصلحته بإحكام إغلاق هذه الحدود. والجيش اللبناني هو الوحيد القادر على القيام بهذه المهمة الشائكة، خصوصا وأن الظروف ملائمة لناحية التركيبة الجديدة في دمشق. وهذا ما يعطي العماد جوزف عون نقطة إضافية لصالحه شيعيا في جلسة التاسع من الشهر المقبل.
عندما حدد الرئيس بري موعد الجلسة الرئاسية لم يكن الزلزال قد حصل في سوريا، لكن التطورات المتلاحقة والضغوط المتوقعة قد تجعل من هذا الموعد عتبة خلاص لاستباق تطورات أخرى متوقعة.