مع الإنقلاب الكبير الذي أصاب سوريا لا بد من رصد التحولات التحولات الهائلة التي ستصيب الشرق الأوسط، خصوصا وأن إسقاط نظام بشار الأسد لم يكن وليدة حركة تمرد داخلية صرفة لا بل خططت له وأشرفت عليه دول خارجية وفي طليعتها تركيا وحمل عنوانا عريضا يتمثل بإخراج إيران من الساحة السورية.
وبالتالي فإن السؤال الأول البديهي يتمحور حول مدى نجاح تركيا في ترتيب عملية انتقال سوريا الى مرحلة حكم جديدة وسط تحديات كثيرة وكبيرة أهمها الحفاظ على التعددية الدينية وجعلها لاحقا جزءا من السلطة. ولا بد من الإقرار بأن الخطاب السياسي الذي انتهجه أحمد الشرع حمل عناوين واعدة. لكن المشكلة تبقى في هذا الخليط الواسع من المجموعات التي شاركت في عملية الإطاحة بنظام الأسد. صحيح أن هيئة تحرير الشام تبقى الفصيل الأكبر وتشكل العمود الفقري لهذه القوى، لكن ثمة فصائل مسلحة أخرى ما تزال تعتنق العقيدة المتطرفة وهو ما سيجعلها على تناقض مع السلوك السياسي الجديد للشرع. أضف الى ذلك تحديات أخرى لها علاقة بالعديد من العناصر التي تعمل تحت قيادة الشرع لكنها ما تزال مؤمنة ومتمسكة بالعقيدة “الجهادية” للقاعدة. ولهذا السبب ربما أعلن الشرع عن نيته بإخراج جميع المقاتلين من المدن والأماكن المأهولة وتسليمها الى قوات الشرطة المحلية. كذلك دعوته لحل جميع التنظيمات العسكرية وإعادة بناء القوى المسلحة للدولة.
حتى الآن تبدو الأمور معقولة خصوصا وأن المرحلة هي إنتقالية وحيث تكون الفوضى هي الغالبة. لكن السؤال الأساسي يبقى حول الأهداف الفعلية لتركيا من التحول الهائل الذي حصل. وثمة أسئلة حول كيفية التعاطي مع الأكراد الذين تصنفهم تركيا في مرتبة العدو الأول لها. مع الإشارة هنا بأن واشنطن التي اعترفت بفتح خط تواصل مع مجموعة الشرع ما تزال تتمسك بعلاقتها مع الأكراد.
وعدا المكاسب السياسية الكبيرة التي حظيت بها تركيا مما جرى في سوريا ما أدى الى “نفخ” وزنها الإقليمي بشكل كبير، فهنالك المكاسب الإقتصادية التي تبحث عنها أنقرة. وهنا تبدو مشكلة أنقرة مع الأكراد أكبر بسبب سيطرتهم على المناطق النفطية السورية. لكن في الكواليس حديث عن نية تركيا بإعادة تحريك مشروعها القديم والقائم على تزويد أوروبا بالغاز القطري من خلال خط أنابيب يمر بالسعودية فالأردن ثم سوريا وصولا الى تركيا. وقد يجد المسؤولون الأتراك بارتفاع منسوب القلق لدى الأردن بسبب انتعاش الإخوان المسلمين عاملا مساعدا للإندفاع بهذا المشروع. ولا حاجة للإشارة الى تصاعد عوامل القلق في الأردن أو الجار الجنوبي لسوريا ومصر والإمارات بسبب الشحنة المعنوية الكبيرة التي ستطال ساحات الإسلاميين في العديد من البلدان العربية. فقبل أشهر معدودة كانت طهران تخطط للإمساك بالتيارات المحسوبة على الإخوان المسلمين وتوظيفها ضد الأنظمة العربية على خلفية حرب غزة ورصيد حماس المحسوبة على إيران. لكن المشهد سيكون قابلا للتبدل بعد المستجدات في سوريا.
وبالأمس حاول أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم اللعب على هذا الوتر ولكن بكثير من الحذر والتأني. فهو وفي معرض حديثه عن الطريق البري والعمل لإيجاد ممرات عبر البر السوري لتزويد حزب الله بالسلاح ألمح الى إمكانية فتح أبواب التواصل مع السلطات الجديدة. ولكنه في الواقع كان يؤشر لتعاون مع فصائل ثانوية قادرة على القيام بهذه المهمة. لكن حذره عكس في الوقت عينه صعوبة المهمة المطلوبة.
لا بل قد يكون على حزب الله التفكير أكثر بهذه “الصحوة السنية” والتي أدت الى نقل عدواها الى الساحة اللبنانية وتحديدا في المنطقة الشمالية في طرابلس وعكار. واستطرادا فإن الذي كان مطلوبا بالأمس بعدم إحكام القبضة الأمنية على الحدود تسهيلا للممرات المفتوحة بات اليوم معكوسا لناحية ضرورة التشدد منعا لتسرب عناصر متطرفة قادرة على العبث أمنيا إنطلاقا من الشمال اللبناني. هذا مع الإشارة الى أن مرفأ طرابلس شكل على الدوام عامل إغراء للمنطقة السنية السورية في حمص وحماه.
ولأن الظروف تزداد تعقيدا وسط توقعات بمرحلة الضغط القصوى ضد إيران والتي سيباشر بها فريق ترامب حال استلام السلطة في العشرين من كانون الثاني المقبل فإن القوى تتعاطى مع الإستحقاق الرئاسي اللبناني من هذه الزاوية الحساسة.
وعندما حدد الرئيس نبيه بري التاسع من كانون الثاني موعدا جديا ثابتا لجلسة تؤدي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية كانت دمشق ما تزال تخضع لسلطة بشار الأسد. لذلك قيل يومها بأن الموعد حدد على أساس استباق بدء اندلاع عاصفة ترامب تجاه إيران. ففي التهديدات الإستباقية إشارات لرفع مستوى خنق إيران إقتصاديا والحديث جديا عن ضرب المنشآت النووية الإيرانية. ويصبح هنا تحديد الموعد يهدف للنفاذ برئيس للبنان قبل حصول تبدلات إضافية للمعادلة الإقليمية العريضة. ولا حاجة للإشارة الى أن لائحة بري الرئاسية باتت معروفة خصوصا بالنسبة للإسم الأول فيها. لكن جاء الحدث السوري الكبير ما زاد من حال البلبلة الحاصلة. ولا شك أن دروسا كثيرة يمكن استخلاصها من الزلزال السوري ولكن يبقى أهمها أن الخط الأحمر الذي كان موضوعا حول استمراربة النظام السوري زال فجأة، ما يعني أن التحولات الحاصلة لا تراعي أي ثوابت كانت تمتاز بها المراحل السابقة، فكيف بالحري على المستوى اللبناني.
لذلك برز رأي آخر عند الثنائي الشيعي يدعو لإيجاد المخرج المناسب لتأجيل الإستحقاق كي يكون من ضمن المفاوضات بين واشنطن وطهران والتي لن تتأخر كثيرا ما سيجعل الموقف أكثر مردودا لهذا الفريق.
وصحيح أن واشنطن كانت تفضل تأجيل الإنتخابات الى ما بعد وصول ترامب لكن إدارة بايدن والتي تنسق خطواتها بالكامل مع فريق ترامب باشرت تحضير ملفها الرئاسي اللبناني. وتبدو واشنطن متمسكة بأن يكون الرئيس المقبل متناغما مع المتغيرات الهائلة التي طرأت على التوازنات اللبنانية والإقليمية.
وبخلاف الكلام المعسول الذي سمعه بري من السفيرين السعودي والأميركي خلال الجلسة الأخيرة معه إلا أن كلام الكواليس مختلف بشكل كامل. والتفسير أن الكلام عند بري كان ضمن الأصول الديبلوماسية أما الكلام في الكواليس فهو ضمن المفاهيم السياسية ولا حاجة لشرح الفارق الكبير بين المفهومين. والسفيرة الأميركية والتي كانت وراء طلب لقاء الخماسية ببري سافرت في اليوم التالي الى واشنطن لتمضية عطلة الأعياد على أن تعود الى بيروت في الثالث من كانون الثاني المقبل. لكن كان من المستغرب أن تكون عطلة الأعياد طويلة الى حد ما وأن تبدأ قبل أكثر من عشرة أيام من حلول عيد الميلاد. إلا أن التفسير لذلك بأن اجتماعات مكثفة ستحصل بين السفيرة ورؤسائها في وزارة الخارجية بدءا من بربارة ليف لإعداد الملف الرئاسي جيدا تمهيدا للقاء أميركي سعودي لهذه الغاية. وسيحصل تواصل مع الرئيس بري ومن خلاله مع حزب الله حول الملف الرئاسي والعمل لتأمين وصول رئيس يشرف على تطبيق الإتفاقات التي حصلت حول الجنوب ويكون قادرا على تأمين الإستقرار على الحدود اللبنانية-السورية، وكذلك أن يشكل عامل ثقة للمؤسسات الدولية إضافة الى الدول الخليجية والتي ستتولى مساعدة لبنان ماليا. وبخلاف الدوشة الإعلامية الحاصلة والتي تتطاير فيها الأسماء يمينا ويسارا ما يعكس خفة العديد من المسترئسين فإن الأوساط الديبلوماسية المتابعة يعتريها بعض التفاؤل حيال إمكانية التوصل الى “تفاهم” رئاسي، وإلا فإن كل الإحتمالات تصبح مطروحة. فبالنسبة لواشنطن وأيضا للدول الخليجية لا مجال للعبث بالواقع الأمني اللبناني وأيضا بالسعي لإضعاف الجيش اللبناني والذي سيشكل عنوان المرحلة المقبلة.
وهنالك من رأى في إطلالة الشيخ نعيم قاسم المفاجئة رسائل حول الإلتزامات المطلوبة من الرئيس المقبل. لكن المشهد العريض يؤشر لواقعية تماهي العناوين اللبنانية مع الصورة الشاملة. وفي هذا الإطار تساءلت أوساط ديبلوماسية غربية عن مآل الوضع في لبنان في حال حصول صدام مع السلطة الجديدة في سوريا وهو ما قد يدفع بها الى إغلاق الحدود البرية على سبيل المثال، وعندها كيف ستسير الأمور في لبنان؟ وبالتالي فإن الواقعية تفرض الذهاب الى حسابات تشمل المصلحة العامة إزاء التحديات جنوبا والتي أضيف إليها الوضع المستجد في سوريا، لا النظر الى الأمور من الزاوية الشخصية الضيقة.
وفي المحصلة فإن الأيام الفاصلة عن الأعياد ستشهد حركة تفاوضية ناشطة ولكن بعيدا عن الإعلام لإنضاج ظروف انتخاب رئيس جديد في ولادة قيصرية غير مضمونة وقابلة لأن تنقلب الى نهاية سعيدة كما الى نتائج غير محسوبة.