مقالات صحفية

“حلب نقطة التحول” بقلم الكاتب السياسي جوني منيّر

شكل نجاح الجيش السوري بدعم إيراني وخصوصا روسي باستعادة مدينة حلب في العام 2016 وذلك بعد طرد التنظيمات المعارضة من الأجزاء الواسعة التي كانت تحتلها نقطة تحول فاصلة في مسار الحرب في سوريا، حيث مالت الكفة بقوة لصالح الرئيس بشار الأسد والمحور الذي ينتمي إليه بقيادة إيران.
ولكن نقطة التحول هذه لم تقتصر فقط على سوريا، بل انسحبت تلقائيا على لبنان حيث أدى ذلك الى وصول حليف المحور العماد ميشال عون الى قصر بعبدا بعد مراوحة قاربت السنتين ونصف السنة شهدت خلالها العديد من التقلبات على وقع المعارك التي كانت دائرة في الميدان السوري، والتي وصلت آثارها الدموية الى العمق اللبناني إن من خلال التفجيرات الإنتحارية أو من خلال سيطرة مجموعات داعشية على مساحة جغرافية لا بأس بها في منطقة البقاع الشمالي الملاصقة للحدود مع سوريا. وكان من المنطقي أن تكون أولى الخطوات في عهد عون طرد المجموعات المتطرفة من عرسال والجرود المحيطة بها. ووفق هذه القراءة يصبح من البديهي التساؤل حول ما إذا كانت السيطرة العسكرية المفاجئة لمجموعات “هيئة تحرير الشام” على محافظة ومدينة حلب ستشكل أيضا نقطة تحول في الحرب الدائرة في سوريا، وتاليا إحتمال تمدد تداعياتها على الساحة اللبنانية التي ما تزال تلملم جروحها إثر الحرب المدمرة التي نفذتها إسرائيل على حزب الله.
ولا جدال بأن الهجوم الصاعق والمباغت لمجموعات النصرة كان قد خضع لتخطيط طويل وجرى انتظار التوقيت السياسي المناسب لإطلاقه. والمقصود هنا بالتوقيت المناسب ما يتعلق بالأجواء الدولية والإقليمية. وبالتالي لم يكن أبدا من باب المصادفة أن تفتح نيران المعارك في سوريا لحظة الإعلان عن وقف لإطلاق النار في لبنان، خصوصا وأن روحية وثيقة وقف النار تقوم على أساس سحب لبنان من الحضن الإيراني، وهو ما جرى استتباعه في سوريا من خلال التصويب على الهدف نفسه.
وفي مقارنة ميدانية سريعة بين معركتي 2016 و2024 نجد الكثير من الفوارق أبرزها على الإطلاق أن القوة العسكرية الداعمة لنظام الأسد كانت متجانسة ومتناغمة تحت مظلة دولية مشتركة سورية-إيرانية-روسية وتتمتع بحيوية قتالية ووسط نفور المواطنين من الجرائم والحكم الإستبدادي والدموي للمجموعات المعارضة والتي كانت تعاني من تشتت وتبعثر وتناحر في كثير من الأحيان.
لكن الصورة بدت معكوسة بشكل كبير في العام 2024. فالفصائل ظهرت بصورة مختلفة حيث غلب عليها التنظيم والحيوية القتالية، ووفق تجهيز عسكري لا بأس به تولته تركيا. أما الجيش السوري فبدا مفككا ومشتت الولاءات ما بين قيادة دمشق والقطع التي تشرف عليها روسيا أو إيران. وعلى الأرض كان هنالك عدم انسجام بين بعض وحدات الجيش السوري والقوى العسكرية الأخرى الموالية لإيران. أضف الى ذلك الواقع الإقتصادي الخانق وهو ما رفع من منسوب التململ لدى الناس. لكن الأهم أن المسار الذي حكم الحرب الإسرائيلية على لبنان والذي جرى تتويجه باتفاق لوقف إطلاق النار مع ملحقه السري جعل الظروف مهيئة لا بل مطلوبة للذهاب الى كسر المعدلة الميدانية القائمة وخلق واقع جديد يتكامل مع البند القائل بوجوب قطع الإمدادات العسكرية عن حزب الله. وطبعا نالت تركيا “جائزتها” بأن فرضت نفوذها على منطقة كبيرة من الشمال السوري. وكذلك كسبت روسيا إمكانية إخضاع الرئيس الأسد بالكامل لها بعد أن كان يتأرجح بين موسكو وطهران وهو ما أغضب الكرملين الذي كان سعى لمصالحة بين دمشق وأنقره بمعزل عن طهران.
أما واشنطن فترسم دائما أهدافا بعيدة المدى، وهو ما يعني هنا بأن إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا الى الحد الأدنى ليس فقط بهدف إخراج دمشق وبيروت من دائرة نفوذ طهران بل أيضا لتأمين الظروف المطلوبة أمام فتح الأبواب على مصراعيها لتحصين واستكمال مسار التطبيع الإسرائيلي مع العواصم العربية في إطار إتفاقية إبراهيم.
لكن لهذا الإنفلاش الميداني للمجموعات العاملة تحت راية “هيئة تحرير الشام” حدود لا يجب تجاوزها. وأول هذه الخطوط الحمراء الحذر من تهديد استمرارية السلطة القائمة في دمشق. وهذه ثابتة كان قد جرى التفاهم حولها دوليا منذ مدة بعيدة وتحديدا منذ دخول روسيا العسكري، إلا إذا أخذت الأمور مسارا غير محسوب. فوفق القناعة الغربية فإن البديل عن نظام الأسد هو المجهول، وهو ما يعني استعار الفوضى الى حدها الأقصى والذهاب الى احتمالات شتى لا يمكن التحكم بها أو السيطرة عليها. واستنتاجا قد يكون المطلوب توجيه صفعة قوية للحضور الإيراني أكثر منه للنظام السوري، وفي الوقت نفسه حشر الرئيس الأسد لتحديد خياراته الإقليمية تحت وطأة الميدان وتآكل هيبة الدولة.
وبالتالي فإن الخطوط الحمر تلحظ عدم تجاوز التقدم الميداني لمعارضي الأسد حدودا معينة، كمثل عدم السماح لها بالسيطرة على مدينة حماه. ذلك أنه في حال حصول ذلك فسيعني بأن الطريق أصبح مفتوحا للسيطرة على حمص، وهو ما سيعني تهديد القواعد العسكرية الروسية في طرطوس واللاذيقية وحميميم. ولأجل ذلك أصبحت الغارات الجوية الروسية أكثر فتكا وتأثيرا بغية الحد من تقدم هذه المجموعات والحؤول دون دخولها الى مدينة حماه.
وبالتالي فإن العواصم الغربية والتي وافقت على أن تشكل استعادة حلب في العام 2016 نقطة تحول في سوريا ولبنان ستجد في انقلاب الوضع الميداني نقطة تحول معاكسة. وهنا لا بد من الإشارة الى أن استرداد حلب في العام 2016 إنما جاء بعد التقارب بين إدارة باراك أوباما الأميركية وطهران والذي توج بالإعلان عن الإتفاق النووي عام 2015. ما يعني بأن نقطة التحول في مسار الحرب السورية وانسحابها على لبنان جاءت كنتيجة طبيعية للتفاهم الأميركي- الإيراني والذي أخذ بعين الإعتبار المصالح الإيرانية العريضة.
أما اليوم فالأمور تبدو معكوسة مع وجود قرار واضح بإنهاء النفوذ العسكري الإيراني خارج حدودها، بدءا من غزة ومن ثم لبنان وهو ما عملت إسرائيل على تحقيقه بالحديد والنار، والآن سوريا قبل أن يصل دونالد ترامب وصقور إدارته ويتابع بضغوط كبيرة على إيران عبر العراق. وبذلك ستشكل الساحة السورية منصة انطلاق شرقا، كما أن خسارة سوريا ستقضي على أي أمل بالرهان على عامل الوقت لإعادة التمدد بهدوء، وهي اللعبة الأحب على قلب الإيرانيين والتي أثبتوا براعتهم في اتقانها.
وفي المحصلة يبدو واضحا (وفق دروس التاريخ على الأقل) أن توجيه ضربة للتمدد الإيراني في سوريا سيعني حكما تكريس خسارة لبنان، وهو ما يفسر الإندفاعة القوية لإيران باتجاه الدخول على خط الحرب الدائرة في سوريا.
وبالتالي كما كانت نتيجة التطورات الميدانية في حلب عام 2016 والتي واكبت المعادلات الإقليمية التي كان بدأ بترسيخها الإتفاق النووي والتي أنتجت سلطة لبنانية موالية بدءا من رئاسة الجمهورية وصولا الى مجلس نيابي موال لإيران بأغلبية الثلثين فإن التبدلات الميدانية في شمال سوريا الحاصلة الآن إضافة الى المعادلات السياسية الإقليمية العريضة الجاري تثبيتها من المنطقي أن تنعكس على الواقع اللبناني الداخلي والذي بات يعمل تحت مظلة أمنية جديدة تتولاها اللجنة الخماسية في جنوب لبنان إضافة الى رئة إقتصادية خليجية ودولية لم يعد بإمكان الإقتصاد اللبناني التنفس من دونها.
ربما من هذه الزاوية بدأ يتصاعد الحديث عن إمكانية تأخير جلسة انتخاب رئيس للجمهورية وبعد أن تكون المعادلة الإقليمية أصبحت أكثر ثباتا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى