Uncategorized

٣ فتيات شيعيّات.. مدرسة مسيحيّة.. وصاروخ “يهوديّ”

هذه رائحة الحرب لمن يستعجلونها: دماء أطفال على الإسفلت. واحتراق اللحم الحيّ، كقلب الأم التي شاهدت بناتها الثلاث: تالين وريماس وليان. وعجز خال الوالدة، الذي كان في سيارة أمامهنّ، وسمع صراخهنّ، وما كان بيده حيلة، سوى أن سحب ابنة أخته قبل أن تحترق، حتّى ذابت الصرخات في أذنيه ولم يعد هناك حناجر ولا أصوات.

هذه هي الحرب لمن يطالبون بها: “يا سيّد يلّا، منشان الله”. هتف كثيرون. لكنّهم لم يكونوا في السيّارة. منهم من نزح إلى بيروت أو صور أو الشمال أو الجبل، ومنهم من يقيم في مكان آمن، لكنّهم تظاهروا وطالبوا بالحرب. فجاءت إلى ريماس وتالين وليان. 

هذه هي حكايات الحرب، واليوم نعرف اللواتي احترقنَ بالأسماء. في غزّة لم يعد هناك متّسع للأرقام حتّى. في الليلة نفسها قتل 500 فلسطيني في غزّة، بحسب وزارة الصحّة. فمن سيعدّ 500 اسم؟ 

فهل أنتم جاهزون لهذا النوع من الصور والحكايات؟ هل أنتم مستعدّون لأصوات الرعب وروائح الموت ومذاق الندم والحزن العميم؟

هؤلاء الفتيات لم يسألهم أحدٌ عن رأيهم. فما رأينَ صندوق اقتراع في حيواتهنّ القصيرة، ولا سمعنَ بالديمقراطية الغربية، ولا انتسبنَ إلى حزب مسلّح ومقاتل، ولا قرّرن المشاركة في الحرب. كُنَّ في نزهة صباح الأحد، وكان يُفترض أن تستيقظ كلّ واحدة منهنّ أمس الإثنين الساعة السادسة صباحاً، ككلّ طفل في العالم، بتثاقل، للذهاب إلى المدرسة.

أكاذيب التاريخ والجغرافيا

لكنّهنَّ احترقنَ في لحظة إقليمية معقّدة. تماماً ككلّ لحظات أهل الجنوب وقراه. فقريتهنَّ، عيناتا، وأخواتها، تقع على تقاطعات شديدة التعقيد. مثل كل ضيعة جنوبية. فعلى حدود لبنان وفلسطين، تجتمع مصائر شعوب كثيرة. ويتكثّف التاريخ على هذه الحدود، وتموج بنا الجغرافيا: بين قرى العرقوب السنّيّ وقرى مرجعيون المسيحية وقرى بنت جبيل الشيعية والمستوطنات الصهيونية اليهودية على المقلب الآخر، وبين ظلال “حماس” وصواريخها، وآلام غزّة وشهدائها، ورجال الحزب وعمليّاتهم، ومراسلي وكالات الأنباء ودولهم، لم يكن يوماً المشهد معقّداً إلى هذا الحدّ.

ربّما درست ريماس في حصّة الجغرافيا أنّ لبنان “صلة الوصل” بين الشرق والغرب. كانوا يكذبون يا ريماس. كانوا يكذبون يا ليان. كانوا يكذبون يا تالين. لبنان ساحة المتحاربين. باحة الفصل بين الشرق والغرب. جنود من جنسيّات لا تنتهي: 49 جنسيّة في اليونيفيل وحدها. وفلسطينيون ولبنانيون وإيرانيون وربّما عراقيون وأفغانٌ ويمنيون وسوريون من جهتنا، وعلى الجهة الأخرى جنسيات لا تنتهي، جاء بها الغرب ووطنّ حامليها في أراضي الفلسطينيين، وأساطيل أميركا وبريطانيا أمام شواطئنا جاهزة للمشاركة في هذه المعركة. وقادة فرنسا وألمانيا وإيطاليا والبقيّة… يتسابقون إلى تل أبيب.

على هذه الأرض، كانت ريماس وتالين وليان في سيّارة مدنية، بين عيترون وعيناتا. فهل صدّقنَ أنّها بلادٌ آمنة؟ أنّ كلّ هذه الأساطيل لن تقتلهنّ؟ لماذا ما يزال هناك مدنيون في هذه القرى؟ من سمح لهنّ بالبقاء؟ أو السؤال الأدقّ: من أجبرهنّ على البقاء؟ هل كان لديهنّ ملاذٌ آخر؟

المدرسة المسيحيّة… وأسماء “الهروب”

هل حاولنَ الهرب أصلاً؟

ثلاث فتيات شيعيّات: بأسماء من خارج الصندوق. ريماس اسم فارسي، ومعناه “ماء الماس” أو قلبه ولمعانه. وتالين اسم يوناني ومعناه “المُزهِرَة”، كوجه الراحلة. وليان اسم يراوح بين العربي ومعناه اللين، وبين الصيني ومعناه زهرة اللوتس، وبين اللاتيني ومعناه الراهب أو المحارب.

ظنّ والدهم وظنّت والدتهم وظنّ الجميع أنّ الحرب انتهت، وأنّ الجنوب آمنٌ للعيش والتعليم والعمل والتنقّل. لكن جاءت الطائرة الصهيونية، التي تحمل على جناحيها أصولية التطرّف اليهودي، وأثبتت العكس.

فطريق البيت تمرّ بالحدود مع فلسطين. وهناك، حيث اليهود المؤمنون بأنّ هذه الأرض لهم، جاءت الطائرة وحملتهنَّ إلى السماء، حيث لا يهود ولا شيعة ولا سنّة ولا مسيحيين.

حسن فضل الله

عيناتا هي بلدة حسن فضل الله، النائب عن الحزب الذي خرج قبل أسبوعين في مؤتمر صحافي وقال لأهل الجنوب إنّ “المصلحة الوطنية تقتضي منع العدوّ من تحقيق أهدافه في غزّة”. كان يقول لأهل الجنوب إنّ مصلحتهم في تمديد المعارك، تلك التي خطفت ثلاثة قلوب صغيرة.

إذا كان الشهداء من المقاتلين في حزبه قد وافقوا على احتمال الشهادة، بل وطلبوها، فأين المصلحة الوطنية في تعريض المدنيين للخطر؟ وكيف موت تالين وريماس وليان سيحمي أطفال غزّة؟ وكيف لتوسيع دائرة الموت هنا أن يضيّقها هناك؟

كثيرون طالبوا هذا النائب وحزبه، والدولة التي يديرونها، بتوفير ملاذ آمن لأهل الجنوب. فاتُّهموا بالخيانة والتآمر. البعض سألوا: أين الملاجىء؟ مثل تلك التي فتحها الإسرائيليون لمستوطنيهم. وسألوا: إسرائيل ضخّت في اقتصادها 45 مليار دولار لتمتين الجبهة الداخلية، فماذا قدّمت الدولة لريماس وتالين وليان؟

على ما يبدو ستكون فتيات عيناتا هنّ أوّل قافلة المدنيين الذين ستحصدهم هذه الحرب، بعدما ربطنا الحزب بحرب غزّة، ويريد أن يربط مصيرنا بمصيرهم.

ريماس وتالين وليان هنّ ضحيّة كلّ هذه التعقيدات، وقد اجتمعت لإحراقهنّ وهنّ أحياء، على طريق البيت. من الهمجية الصهيونية وعمرها من عمر لبنان، ومن تقاطع الحروب الدينية والأصوليات، إلى الدول وأطماعها، ومن التقصير الحكومي والحزبي، إلى كذبة الأمان في الجنوب، ومن غياب خطّة الإخلاء والإيواء، إلى الانهيار الاقتصادي وأسبابه، ستودي بكثيرين وكثيرات لا يملكون ثمن الخروج من الجنوب.

هذه بعض من حكاية ثلاث فتيات شيعيّات، في مدرسة مسيحية، مع طائرة “يهودية”.

محمد بركات – اساس ميديا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى