تحليل السياسات

روسيا و”صفقة القرن”: دعها تمضي.. أو تموت!

وسام متى

هدفان قادا  بنيامين نتنياهو إلى روسيا في زيارته هذا الأسبوع، الأول، الظفر بانجاز شعبوي يعود به إلى إسرائيل ليعزز رصيده الشعبي المتهاوي قبيل انتخابات الكنيست، عبر “تحرير” شابة طائشة عبرت مطار شرميتيفو الموسكوفي ببضعة غرامات من الحشيش فتحولت إلى صيد امني – سياسي ثمين؛ والثاني، رصد موقف فلاديمير بوتين من الهدية الأكبر التي قدمها إليه دونالد ترامب قبل يومين – “صفقة القرن”.

لا شك في أن فلاديمير بوتين قد اختار التوقيت المناسب لتقديم “هدية”  ناعاما يسسخار لضيفه الإسرائيلي، تماماً كما فعل عشية الانتخابات السابقة للكنيست، حين سلّمه رفاة الجندي زخاريا باومل، الذي قُتل في معركة السلطان يعقوب عام 1982.

المفارقة هنا تكمن في أنّ الهدية السابقة ترافقت أيضاً مع هدية قيّمة أخرى قدّمها دونالد ترامب إلى رئيس الوزراء الاسرائيلي المحاصر بالمعارك السياسية والقضائية، حين وقّع على وثيقة الاعتراف بضم هضبة الجولان لإسرائيل.

هكذا بدا كما لو أن رئيسي أكبر دولتين مؤثرتين في المشهد العالمي قد نحيا جانباً صراعاتهما، واتفقا على دعم بنيامين نتنياهو في مواجهة منافسيه.

ولكن، إذا كانت هدايا ترامب السخية لنتنياهو قد أتت بخلفيات واضحة، أقلها أن الرئيس الأميركي بات في حاجة إلى “انجازات” في السياسة الخارجية ترفده بدعم من اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة قبل أشهر قليلة على “الثلاثاء الكبير”، فإن خلفيات فلاديمير بوتين تبقى مبهمة، وإن كانت ثمة قناعة راسخة لدى الجميع، ولا سيما في إسرائيل بالذات، بأّنّ سيد الكرملين لا يقدّم هدايا بالمجان، ومن هنا يمكن افتراض أن كل المحللين الاسرائيليين، وقبلهم معارضو نتنياهو أنفسهم، سيستنفرون لمعرفة الثمن الذي دفعه رئيس وزرائهم مقابل هذه الهدية.

التسريبات الأولية، التي نشرتها الصحافة الاسرائيلية، سبقت إطلاق سراح ناعاما يسسخار حين تم الكشف عن صفقة، لم تعلن تفاصيلها بشكل رسمي حتى الآن، تقضي بالعفو عن الشابة القابعة في أحد سجون موسكو، مقابل تسوية قانونية لبعض ممتلكات الكنيسة الارثوذكسية الروسية في القدس المحتلة.

ووفقاً لصحيفة “يديعوت أحرونوت” فإنّ الوزير الإسرائيلي زئيف إلكين، المقرب من نتنياهو، كانت قد التقى وفداً رسمياً روسياً رفيع المستوى، عشية زيارة بوتين لإسرائيل، الأسبوع الماضي، للبحث في خطوات قررت السلطات الاسرائيلية ترتيبها بشأن أملاك الكنيسة الروسية.

ومن بين هذه الخطوات، وافقت إسرائيل على أن تسجل روسيا ملكيتها لـ”كاتدرائية ألكسندر”، الواقعة ضمن مجمع المسكوبية المحاذي لكنيسة القيامة في القدس المحتلة، وهو مطلب روسي لطالما ووجه  برفض إسرائيلي خلال السنوات الماضية، بحجة عدم التدخل في نزاعات بين أجنحة داخل الكنيسة الروسية، فضلاً عن الموافقة على تنظيم الملكية الخاصة بساحة سيرغي، في مجمع المسكوبية أيضاً، ومنحها إعفاءات ضريبية.

واذا صحّت المعلومات بشأن التسوية على الممتلكات المسكوبية،  يكون بوتين قد وضع نصب عينيه تصحيح وَضع قانوني – سياسي يعود إلى قرن من الزمن، عبر استعادة بعض ما فرّط به نيكيتا خروتشوف عام 1964، لقاء 4.5 ملايين دولار سدّدت كشحنات من برتقال يافا إلى الاتحاد السوفياتي، ولكن هذه المرة عبر غض الطرف عن عشرة غرامات من الحشيشة – للاستخدام الشخصي – كانت في حوزة مسافرة وقعت بين أيدي اجهزة الامن الروسية في رحلة ترانزيت من نيودلهي إلى تل أبيب.

وبالرغم من أن الجانبين الروسي والاسرائيلي تجنّبا، في الخطاب الرسمي، وضع قضية يسسخار في إطار عملية تسوية، وهو نهج لطالما اتبعته الدبلوماسية الروسية، ويكتسب في الحالة الراهنة أهمية خاصة طالما أن الحديث يدور عن “هدية انتخابية” لنتنياهو، إلا ان كل المؤشرات تذهب باتجاه تأكيد وجود صفقة كهذه.

أول هذه المؤشرات شكلي، تمثل في اصرار بوتين على  أن يشير، في الكلمات التي توجه بها إلى نتنياهو قبيل تحوّل لقائهما في الكرملين إلى جانبه المغلق، إلى دور ما للكنيسة الارثوذكسية الروسية في العفو عن يسسخار؛ وأما ثانيها، فينطلق من واقع أن اسرائيل كانت في حاجة إلى تقديم ما يكفي من أثمان لتهدئة الغضب الروسي بعد “الخيانة” المتمثلة في تسليمها المواطن الروسي أليكسي بوركوف إلى الولايات المتحدة في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، بتهمة التواطؤ في جرائم الإنترنت.

أيّاً تكن الحال، فلا شك ان الدفء المتجدد في العلاقات الروسية – الاسرائيلية يمنح موسكو هامشاً للمناورة في توجهات سياسية، تفضّل روسيا، كعادتها، ابقائها في دائرة الغموض.

هذا الغموض ينطبق على الموقف الروسي من “صفقة القرن”، التي اراد بنيامين نتنياهو أن يسوّقها في الكرملين، وهو ما حرص على إظهاره حين قال إنه اختار موسكو كوجهة أولى لزياراته الدولية بعد الإعلان الأميركي عن الصفقة.

مع ذلك، لاحظت الصحافة الروسية أن بوتين قابل حماسة نتنياهو تجاه “صفقة القرن” بفتور كبير، أقلّه في الكلمات العلنية التي سبقت اللقاء المغلق مع نتنياهو، وذلك امتداداً للموقف المعتمد في كافة الدوائر السياسية والدبلوماسية في العاصمة الروسية.

يعكس ذلك استمرار العمل بقاعدة ثابتة في التوجهات الروسية تجاه عملية التسوية في الشرق الأوسط، يمكن اختزالها بحقيقة أن أيّة خطة مقترحة لا تكفيها، لكي تحقق النجاح، موافقة إسرائيل وحدها، فثمة دعم مطلوب من قبل المجتمع الدولي، والأهم من ذلك قبولاً فلسطينياً، وامتداداً لذلك، عربياً لها.

“سندرسها”، قال نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف بعد ساعات على إعلان ترامب  عن “صفقة القرن”، مستعيداً في الوقت نفسه الموقف الروسي التقليدي حول التسوية، والذي لخّصه بنقطتين: “الأمر الجوهري هو أن يعبر الفلسطينيون والعرب عن موقفهم من الخطة المقترحة”، و”ينبغي على أطراف النزاع الدخول في مفاوضات مباشرة والتوصل إلى تنازلات مقبولة للطرفين”.

في وقت سابق، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في معرض تعليقه على “صفقة القرن”، إنه “ينبغي أولاً معرفة مواقف جميع الأطراف المعنية: الفلسطينيون والدول العربية واللجنة الرباعية” للوسطاء الدوليين في تسوية الشرق الأوسط، والتي تشمل الولايات المتحدة وروسيا  والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.

الموقف نفسه تكرر بعد لقاء بوتين – نتنياهو، وقد عبّر عنه المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، حين أشار إلى أن موسكو “تواصل تحليل ودراسة الخطة الأميركية للتسوية الفلسطينية الإسرائيلية”.

يشي غموض الموقف الروسي برغبة في عدم الكشف عن كل أوراق اللعبة، وهو ما يجعل التكهنات تذهب في أكثر من اتجاه، خصوصاً عند الجانب الاسرائيلي، الذي يأمل في أن تغير روسيا مقاربتها التقليدية اذا ما اتيحت لها فرصة  تحقيق بعض المكاسب السياسية من الصفقة الترامبية.

مع ذلك، فإن المقاربة الروسية تنطلق من طبيعة “صفقة القرن” نفسها، والتي لخصها الخبير في منتدى فالداي  فيودر لوكيانوف بالإشارة إلى ان مبادرة ترامب تحمل وعوداً متبادلة بين طرفي الصراع، يصعب تنفيذها اذا لم يجلسا معاً على طاولة المفاوضات، لافتاً الإنتباه إلى أنه حتى الآن لا يوجد أي سبب للاعتقاد بأنهما سيفعلان ذلك.

بذلك، يمكن فهم الموقف الروسي، الذي يأخذ في الحسبان فجوات “صفقة القرن” وتعقيداتها، ما يجعل موسكو تفضّل التريّث والترقب لما ستؤول اليه هذه الخطة، فإذا ما نجحت، وهو أمر يبقى موضع تشكيك، فيمكن حينها البحث في سبل للانخراط المباشر فيها، وربما الاستفادة منها، طالما أن الموقف الروسي يمكن أن يشكل نوعا من الغطاء لها، سواء بالمباشر أو من خلال “الرباعية الدولية”… وإذا ما فشلت، وهو ما تذهب إليه كافة التوقعات، لن تكون روسيا مضطرة لتحمل مسؤولية موتها، إذ ستترك إلى الآخرين مهمة كتابة ورقة نعيها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى