لم نجد دولة تقمع الأغنياء النهابين. إنهم يقمعون الفقراء المنهوبين فقط، وقياداتهم التي إختارت الإنتماء إلى الفقراء. شعار الشرطة: أوقف واحتجز وعذّب. عندما يخيم الظلم والفقر والإستبداد، تكثر حوادث الإغتيال. ألف حادثة إغتيال في البرازيل. و90% من حوادث العنف التي تمزق المدن الكبرى في البرازيل، “منشؤها الفقر المدقع الذي تعانيه أكثرية البرازيليين”… “الجوع كافر” يا عالم يا هو!
ولأن العنف يصير مذهباً للفقراء، كان الأغنياء يتنقلون بطائرات مروحية أو بالسيارات المصفحة، محاطون ومحروسون بميليشيات مسلحة، وبيوتهم مختبئة خلف جدران عالية جداً.
لم تكتمل الصورة بعد. الفقر يتقدم بسرعة. السلطة (في البرازيل) عالجت المأساة الإقتصادية بالخصخصة. والخصخصة واقعاً، هي أكبر عملية نصب، يقدم عليها البائع والمشتري. بيعت مؤسسات الدولة المنتجة، بأرخص الأثمان. القطاعات المربحة بيعت بأقل من ثمنها بكثير. باستثناء الشركة الوطنية للنفط، حيث تمت حمايتها بقوة نقابات العمال (برافو).
عندنا، باعوا الشواطىء مجاناً. يا حيف. لا يوجد أحقر من سلطة تتباهى بأنها فاسدة.
يقول الدكتور غسان سلامة، فقط عندنا، يسير الفاسد في الشارع متباهياً. انظروا اليهم. حدقوا بهم بربكم، كيف تطيقون هذا المشهد. تباً، ولولا الإحتشام الضروري في هذا المقام، لأطلقت للساني العنان لقذفهم بأبشع الشتائم والكل يجيدون هذا الأمر.
خاتمة المشهد البرازيلي، تصلح عنواناً للورقة الإصلاحية التي تفتقت فيها عبقرية جهنمية غير مسبوقة، ويشهد لها الرئيس البرازيلي كاردوسو بارك. الخصخصة. مدير مكتبه برر العملية بما يلي: “إن شركاتنا العامة قوية ومرغوب فيها جدا. لذلك، سوف نبيعها لإستخدام ثمنها لإنقاذ الشعب البرازيلي من الفقر”.
تتضمن الورقة الإصلاحية اللبنانية بيع المرافق الحيوية. النتيجة بعد البيع، أن المحصلة المالية كانت ممتازة جداً، إنما، وهنا جوهر الموضوع، فإن عشرات مليارات الدولارات قد تبخرت. أين؟ قيل، بسد فجوات في الميزانية العامة، وهناك جزء حرزان حُوّل إلى حسابات خاصة في الخارج، أو في جيوب الوزراء والجنرالات والقضاة والموظفين الكبار وكبار موظفي المصارف.
اليس لبنان نموذجاً يحتذى. منذ ثلاثين عاماً، ولبنان يراكم الفضائح، ويعالج كل فضيحة، بفضيحة أفدح؟
لبنان نموذج. إقتصاد الفساد أكبر من أي فروع الإقتصاد في لبنان. المشاريع التي تنفذها الدولة هي بيد مقاولين وشركات تمت بصلات رحم وصلات حساب، مع الطغمة السياسية
إرتكابات صندوق النقد الدولي
اميركا اللاتينية ضحية مثالية، كونها الحديقة الخلفية للبيت الأبيض الأميركي. فماذا عن بلاد في قارات بعيدة؟ تايلاند مثلا؟
يتهم الحائز على جائزة نوبل للإقتصاد جوزف ستيفليتز، صندوق النقد الدولي، وهو كان مسؤولا كبيرا فيه، بأنه فاقم بتدخله، الأزمة المالية التي ابتلعت في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي إقتصاد عدة بلدان في آسيا، وبأنه “كان المسؤول المباشر عن إغلاق عدة معامل وشركات تجارية، متسبباً بحالة الفقر التي غرق فيها ملايين العمال وأسرهم”.
منذ ثلاثين عاماً، إنفجرت تايلاند. أزمة مالية كبيرة افقدت العملة الوطنية قيمتها. غادرت الرساميل البلاد، سراً وعلناً بكثافة. أقدم البنك المركزي على إستخدام مئات الملايين من الإحتياطي من الدولارات من أجل شراء العملة الوطنية مقابل الدولار دفاعاً عنها. بعد ثلاثة أسابيع توقف النزف لأنها وجدت نفسها عاجزة عن الدفع. إنتقلت العدوى إلى اقتصادات دول مجاورة: اندونيسيا، تايوان، كوريا الجنوبية. صندوق النقد الدولي حاضر لتطبيق وفرض شروطه. فعل ذلك ودفعت تلك الدول خسائر ضخمة. المكسيك كذلك. طبقت سياسات مالية ونقدية تسامحية امام هرب الرساميل والتهرب من الضريبة وفساد المسؤولين وتراكم الديون الخارجية. النتيجة تضخم نقدي، بعد كل هذه السياسات، هدّد النسيج الاجتماعي للبلاد. صارت البلاد بحاجة ماسة الى الاموال. لجأت حكومة المكسيك الى مقصلة صندوق النقد الدولي، فطالب المكسيك بالآتي: خفض المصاريف العامة، مكافحة التضخم، تجميد الأجور.
يشير ستيفليتز إلى الإجراءات ذات البعد الواحد التي يطبقها صندوق النقد الدولي: تحرير اسواق المال تحريراً كاملا. تدفق رساميل لم توظف لأجل طويل، تأمين الربح السريع والمرتفع، عن طريق المضاربة على العقارات. التمويل المتدفق أنفق على ناطحات سحاب نمت كالفطر، وأبراج ضخمة لكازينوهات وما يشتق منها، ونوادي للترفيه، وأحياء كاملة من شقق للسكن وفيلات ضخمة جداً.
اليس هذا ما حصل في لبنان ما بعد الحرب. “سوليدير”. فقاعة عقارية. أبراج فارغة. فنادق الخ. بناء فخم زاد عن الطلب وليس في متناول الطبقة الوسطى، فتهجرت من مساقط رؤوسها وانتقلت إلى أحزمة من الأبنية المتصلة، بحيث أكلت المساحات الزراعية والجبال والشواطيء، وتشوهت صورة لبنان بالكامل. معظم ما تم إرتكابه عمرانيا فارغ، فارغ، فارغ.
هكذا حصل في أكثر من بلد: عرض المساحات المبنية زاد عن الطلب عليها، فإنفجرت الفقاعة العقارية. هربت الرساميل الأجنبية بالسرعة التي دخلت فيها، فانهار الإقتصاد. لبنان، لم يشذ عن القاعدة. أنفقت الأموال في مشاريع كبيرة لا تتفق مع متطلبات الطبقة الوسطى. سويسرا الشرق، تحولت إلى حي من أحياء سان باولو البائسة. تباً مرة أخرى. غير أن النصيحة المكتوبة تكون سرية: تطبيق التقشف. تخفيض الانفاق المجدي وغير المجدي. وقف القروض المصرفية. اذا، لا دواء، لا طاقة، لا فيول، لا مواد غذائية.
إنه الحريق الكبير ولا وجود لمن يطفىء هذه الحرائق، إلا من أشعلها!
الإفلاس، تتسبب به أولا، السلطات الفاسدة. هذا ما اتفق عليه خبراء دوليون، كما جاء في كتاب، “أسياد العالم الجدد” لجان زيغلر. لبنان نموذج. إقتصاد الفساد أكبر من أي فروع الإقتصاد في لبنان. المشاريع التي تنفذها الدولة (ولا يتم إنجازها) هي بيد مقاولين وشركات تمت بصلات رحم وصلات حساب، مع الطغمة السياسية. الحاكمون، صيادو فرص وقناصو مناسبات، علناً وبلا أي شعور بالفضيحة. الفساد هو العملة الوطنية الرائجة. طغيان المال وتوظيفه حكومياً، يمنع الشفافية والمساءلة. تتساوى في هذا الأمر، الأنظمة الديكتاتورية والأنظمة الديموقراطية الفاشلة. يضاف إلى ذلك، إعتماد سياسات إقتصادية تتفق ومنطق الأسواق العالمية، بما فيها من رذائل تفرضها تقنيات العولمة الإجتياحية. من “خرائب” العولمة، سياسات التخلي عن الزراعة والانتاج الصناعي، والتعديل الحاسم على التجارة، باتجاه واحد. وصية الفيلسوف الإقتصادي ميشال شيحا أن لبنان بلد تجارة بين بضائع البحر وأموال الصحراء، ولبنان نقطة وصل. محطة لا أكثر. “قوميسيون”. من إرشادات العولمة المؤذية، تمكين المصارف والشركات الكبرى من التحكم بمفاصل التجارة، بحيث تظل الأسواق مفتوحة للإستيراد، مقابل تصدير هش وضعيف وفقير.
لا أموال بلا سياسة، حتى ولو جعنا. حدث ذلك في طشقند. في العام 1995، قطع صندوق النقد الدولي كل علاقته بهذا البلد لإدارته الكارثية لقروضه
من يدفع الثمن؟
منذ مئة عام، مات الناس جوعاً في لبنان. فقد البلد ثلث سكانه. رواية “الرغيف” لتوفيق يوسف عواد شهادة جارحة في ذلك الزمن الأسود. هل نحن عائدون قرناً إلى الوراء؟
بعد مئة عام، يتساءل اللبنانيون عن حق، هل نحن على أبواب مجاعة، وهل يمكن النجاة منها؟ الجواب مقلق. لا طمأنينة بعد اليوم.
يبدو أن لبنان محاصر خارجياً. فقر في الداخل وقرار حرمان من الخارج. مساعدة لبنان ممنوعة، أولاً، لأن لبنان لم يف بتعهداته، وثانيا، وهو الأهم، لأن لبنان على مفترق خيارات إقليمية مفتوحة فيها جبهات المواجهة والقتال. لا أحد مسـتعد لمساعدة لبنان من دون ثمن، أو أثمان سياسية. لا صندوق النقد الدولي، ولا الأشقياء الأشقاء العرب.
الخوف، كل الخوف، من المساعدات المشروطة، إن بصفقة القرن لتوطين اللاجئين والنازحين، وإن بقبول لبنان ترسيم حدوده البحرية مع كيان الإغتصاب وفق المنظور “الإسرائيلي”، أو بسلاح المقاومة وهو من سابع المستحيلات جملةً وتفصيلاً.
لا أموال بلا سياسة، حتى ولو جعنا. حدث ذلك في طشقند. في العام 1995، قطع صندوق النقد الدولي كل علاقته بهذا البلد لإدارته الكارثية لقروضه. صندوق النقد الدولي ليس مستقلاً أبداً عن إرادة الإدارة الأميركية. منعت الولايات المتحدة الأميركية تقديم قروض إلى طشقند، غير أن الضرورات العسكرية في حرب أفغانستان، حتّمت على واشنطن البحث عن محطة لطائراتها المقاتلة. لم يكن أمامها سوى طشقند. فتدفقت القروض وشطبت الديون، وعادت عمليات الضخ المالي، بأوامر من البيت الأبيض وجورج بوش تحديداً.
هل يُعامل لبنان كطشقند؟
ليت لا.