بالرغم من عدم تحقيق ثورة الخامس والعشرين من يناير للأهداف التي من أجلها خرج ملايين المصريين للشوارع مرددين هتاف “عيش حرية عدالة اجتماعية”، يرى البعض في المقابل أن الثورة خلفت آثارا اجتماعية لا يمكن حجبها.
فالتعامل باعتبار الثورة المصرية وكأنها لم تكن، قد يكون أمرا غير منطقي، لأن ما شهدته مصر من حراك لابد وأنه ترك أثرا ما بطبيعة الحال سواء بالسلب أو الإيجاب في نفوس غالبية المصريين، وخاصة لدى أبناء الجيل الذي شارك في الثورة وتابع كافة تفاصيلها وإلى ما آلت إليه وكيف انعكس ذلك على الحياة العامة أو الخاصة.
“فقاعة آمنة”
ربما لا يسمح سقف الحرية المسموح به في مصر اليوم بما هو أكثر من مديح “شجاعة” المشاركين في ثورة الخامس والعشرين من يناير و”تعظيم ذكرى ضحاياها”. فبالنسبة لملف حرية التعبير، على سبيل المثال، جاءت مصر في المركز 163 على مستوى العالم، وفقا لمؤشر حرية الصحافة الصادر عن منظمة مراسلون بلا حدود في شهر ابريل/ نيسان الماضي.
وفيما يتعلق بملف الاعتقالات السياسية، لعل الأكثر بروزا في الفترة الأخيرة إقرارالنيابة العامة المصرية باعتقال نحو 1000 بتهمة المشاركة في موجة الاحتجاجات المحدودة التي شهدتها مصر خلال شهر سبتمبر/ أيلول الماضي.
الشاب المصري ع. ف.، (طلب عدم ذكر اسمه)، يصف لـ DW عربية تجربة إلقاء القبض عليه بكونها “الأصعب” خلال التسع سنوات الماضية منذ قيام ثورة يناير، حيث دفعته للتفكير في “أننا جميعًا تحت تصرف الأمن”، على حد تعبيره، ليتخذ قرار “المحاولة بشتى الطرق البعد عن مواضع الشبهة”، كما يقول. ويتابع “كان من الممكن أن أموت أو أن أظل مختفياً، وبعدما خرجت أدركت أن السلامة خير من الأسف”.
ع. ف. توقف عن الاهتمام بأي شأن سياسي وكل ما يحدث خارج الدائرة المحيطة به منذ 2013. ويعتبر أنه بعد قيام الثورة أصبح ينظر للحياة اليوم باعتبارها “غير آمنة”.
ويحكي ع.ف عن إصابته بالاكتئاب وتحوله من شخص اجتماعي منفتح على الآخرين لشخص قلق ومصاب بالشك ولا يأخذ الأمور على بساطتها. وبعد خضوعه للعلاج صار أكثر عملية وأقل تعاطفًا وأكثر تركيزًا وانخراطا في العمل لمواجهة الاكتئاب وصنع لنفسه “فقاعة آمنة” لا يفكر في الخروج منها.
وكان المصري الأمريكي مصطفى قاسم، والمحكوم عليه بالسجن 15 عاما في القضية المعروفة اعلامياً بفض اعتصام رابعة، قد فارق الحياة مؤخرا نتيجة تدهور حالته الصحية عقب دخوله في إضراب عن الطعام “احتجاجًا على الأوضاع المتردية بمحبسه، وفقا لبيان صادر عن منظمات حقوقية مصرية مستقلة لمطالبة اللجنة الدولية للصليب الأحمر بتفقد أوضاع السجون في مصر خوفا من أن “المصير نفسه يهدد باقي المحتجزين والمحتجزات”.
ماذا بقي من ثورة يناير؟
يرى البعض أن ثورة يناير “ماتت” وتعيش فقط “في أذهان حكام مصر الحاليين”، في إشارة للخوف من تكرار حدوثها، ولكن الخوف من العواقب الأمنية ليس الدافع الوحيد لدى الكثير من المصريين للابتعاد عن السياسة والشأن العام.
بدوره، تحدث الكاتب المسرحي حاتم حسين أيضا عن شعوره بشكل آخر من انعدام الأمان، إذ يعتبر أن ما حدث له بقيام ثورة يناير في 2011 هو “تجرد من الهموم الذاتية والحلم بتحقيق أهداف عامة إلى جانب الأحلام الشخصية”، على حد وصفه. إلا أن ما تلى ذلك كان “توجه تدريجي نحو الاهتمام بذاته فقط”، كما يقول في مقابلة مع DW عربية، خاصة بعد زواجه وإنجابه، حيث يقول: “مع الكفر بفكرة خوض أي معركة من أجل الآخرين بغض النظر عن شكل المعركة أو نوع التضحية المطلوب، أرغب اليوم فقط في النجاة مع ابنتي وتربيتها وتوفير حياة أفضل لها”.
“شعور بالذنب”!
وإذا كان حات نموذج للشاب الذي تزوج وأنجب وخلفت إخفاقات الثورة لديه شعورا بالخوف على مصير أسرته، هناك في المقابل من دفعته إخفاقات الثورة لاتخاذ قرار عدم الزواج وإنجاب الأطفال من الأصل، كما هو الشأن بالنسبة للشابة س. ع. التي تؤكد في حوارها مع DW عربية، أنها “تعرضت لصفعة قوية بسبب عدم تغيير أي شيء وتلاشي مقومات الأمل”، لتقرر اتخاذ قرار عدم الإنجاب في مصر والتفكير في الهجرة إلى الخارج بسبب الضغوط الاقتصادية والمخاوف الأمنية، حسب قولها.
ويبدو أن السبب وراء قرار س.ع.، والتي تحولت منطقة وسط البلد بالقاهرة الملاصقة لميدان التحرير من الأقرب إلى قلبها إلى “ثقيلة عليه”، هو رؤيتها لمشاهد صادمة، حيث تقول: “رأيت أناسا يموتون، فأصبحت بدون وعي أعمل على نسيان كل ذلك، مما يجعلني أحس بالذنب فيما بعد لفقدان الكثير من الذكريات، وما يزيد من شعوري بالذنب هو إدراكي أن الكثيرين دفعوا ومازالوا يدفعون ثمنا كبيرا”.
“تطبيع هادئ”؟
ويتوقع ع. ف. المزيد من السيطرة والهيمنة من جانب الدولة، ولكن بشكل أقل قسوة مما حدث في مواقف سابقة مختلفة منذ عام 2011 من خلال “تطبيع هادئ” بين الحاكم والمحكوم.
وبينما لا يتوقع حاتم حسين حدوث تغيير سياسي، وإن حدث فإنه لن يشارك فيه، كما يقول. لكنه يؤمن بأن دائرة الأشخاص التي بدأت في تبني أفكار مختلفة “يتعلق أغلبها بالتحرر من السلطتين الدينية والاجتماعية” مستمرة في الاتساع منذ قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير، خاصة وأن الجيل الذي شارك في ثورة يناير أمس هم آباء اليوم والغد.
وبالرغم من تخوفه من إمكانية أن يؤدي الإيمان بعدد من تلك الأفكار إلى “طمس الهوية وفقدان الانتماء لثقافة بعينها”، إلا أنه يؤمن بأن “الحركة في جميع الأحوال أفضل من الجمود”، كما يقول.
دينا البسنلي