تحليل السياسات

باسيل ينصب كميناً لنفسه.. والشارع يُرعب الجميع والحريري يتفرج

حسين أيوب

كانت التقارير الأمنية على مكتب الرئيس اللبناني ميشال عون وباقي المسؤولين في الدولة اللبنانية، صباح الثلاثاء في الرابع عشر من كانون الثاني/يناير 2020، كافية لقلب الأمور رأساً على عقب. ثلاثة أشهر من المناورات والمناكفات واللعب تحت الطاولة وفوقها، لم تكن كافية. فقط جنرال الرعب والخوف من المشهد الآتي، لبنانياً، كان كفيلاً بتعديل المسارات الحكومية… والأهم، تحذير الأجهزة الأمنية من أن العنف الآتي “قد يكون مجبولاً هذه المرة بالدم”، وبعدم قدرة أحد على ضبط الأرض بعد الآن. لذلك، قيل إن الحكومة صارت قريبة، وأن رئيس المجلس تكفل بأن يكون كاسحة ألغام، لكن ألغام التعطيل متعددة، من الثلث الثلث المعطل إلى الحقائب والأسماء، ولا يبدو أن أحداً قد طرق باب تلة الخياط، بشكل جدي، حتى الآن.

لا أحد يملك رواية سياسية دقيقة تقنع الجمهور اللبناني العريض بحقيقة ما يجري على صعيد أسهم البورصة الحكومية اللبنانية. بدا حسان دياب، قبل نحو شهر من الآن، أي في لحظة تكليفه بتأليف أول حكومة برئاسته، خلفاً لسعد الحريري، وكأنه “المنقذ”. لكن قبل أقل عشرة أيام من الآن، تحول الرجل فجأة إلى “شيطان”. رجمه الكل. القريب منه.. والبعيد. اليوم، أصبح دياب في منزلة بين الإثنتين. ليس منقذاً ولا شيطاناً أو مجرماً. أصلاً، هو لم يخن قناعاته. أقله، كان واضحاً منذ اليوم الأول لتكليفه، بأنه يريد حكومة من 18 وزيراً وأن يكونوا كلهم من التكنوقراط ولا مانع إن جاءوا من الأحزاب أو من مضاربها أو بيئتها. كان حزب الله الأكثر تحفظاً، لكن رئيس كتلته النيابية محمد رعد، ذهب أبعد مما تصور الآخرون. “نريد وزراء إختصاصيين من ذوي الخبرات العلمية”. أعطاه ما لا يحلم به أي رئيس مكلف غيره. كانت الوجهة الأساسية أننا نريد حكومة بأسرع وقت لـ”فرملة” الإنهيار.

صال “المكلف” وجال. فاوض “الخليلين” (المعاونان السياسيان لرئيس مجلس النواب والأمين العام لحزب الله) وجبران باسيل. إلتقى رئيسي الجمهورية ومجلس النواب. إستقبل سفراء وممثلين للحراك. فتح خطوطا مع وليد جنبلاط واللقاء التشاوري السني وعدد من أطياف 14 آذار/مارس، بتمن خاص من “الثنائي الشيعي”، حتى أن نبيه بري قال له “حاولْ حتى مع القوات اللبنانية وتيار المستقبل”.

لم يجد كل من تفاوضوا معه أن الرجل يزيح فاصلة أو نقطة عن خطته. لا بتعديل هوية وزارته ولا عددها ولا النسب. فقط ترك هامشاً للتفاوض حول الأسماء. قرر أن يستخدم حق “الفيتو” بأن لا يمر إسم من دون موافقته. هي قاعدة تسري أيضاً على رئيس الجمهورية، شريكه في التوقيع والتأليف و”الفيتو”!

لم تمض 48 ساعة على إغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، حتى كان ميشال عون يبعث برسالة عاجلة إلى كل من رئيس المجلس والسيد حسن نصرالله. لا بد من حكومة سياسية لمواجهة تداعيات هذه المرحلة الخطيرة. لم يكتف بذلك، وحتى لا يشكك الآخرون بموقفه، طلب من باسيل أن يبعث للثنائي الشيعي رسالة بالمضمون نفسه. تلقفها بري، أما حزب الله فنادى الجميع أن “إتكلوا على الله إذا كنتم متفقين على ذلك”.

سُئل باسيل من السفراء عن سر النقلة من التكنوقراط إلى “السياسية”، فأجابهم “إسالوا “الثنائي الشيعي”، وعندما راجعوا قيل لهم “وهل ينتمي باسيل إلى الثنائي”؟

أطلق عون وباسيل مبادرتهما يوم الأحد في الخامس من كانون الثاني/يناير 2020. بعد أقل من 38 ساعة، وبينما كان “الثنائي” يشغل محركاته في إتجاه الحكومة السياسية، برغم إعتراض الرئيس المكلف عليها، جاءته الصدمة من بعبدا: “أهملوا إقتراحنا بتشكيل حكومة سياسية”!

ثمة قطبة مخفية في ذهاب بعبدا إلى الحكومة السياسية ثم في العودة عنها. فجأة صار الكل يريد ما لا قدرة لحسان دياب أن يعطيه. من تيار المردة إلى اللقاء التشاوري، وكل منهما ينادي بوزيرين من حصته، إلى وليد جنبلاط، الذي قرر أن الجلوس في حكومة دياب أفضل من الإنتظار على قارعة طريق سعد الحريري!

قبل ثلاثة أيام، وتحديدا يوم الإثنين الماضي، تمحور النقاش بين بعبدا وعين التينة حول سبل إقناع سعد الحريري بتصريف الأعمال و”دفش” حسان دياب للإعتذار. تبين أن لا الأول مستعد للتصريف ولا الثاني للإعتذار. قيل أن “فلان الفلاني” كفيل بإقناع دياب أو ثمة سيناريوهات متصلة بالأرض. ثم ماذا يمنع الرئيس المكلف أن يقدم تشكيلته إلى رئيس الجمهورية، فيصدر الأخير مراسيم الوزارة وتسقط إما بإستقالة أكثر من ثلث الوزراء منها فوراً أو في المجلس..

ماذا حصل على هامش تلك النقاشات، حتى إنتقل الجميع من مقلب الإطاحة بحسان دياب إلى رفعه على “الراحات” في أقل من 24 ساعة؟

أولاً، ثمة مستجد داخلي متصل بالإدارة السياسية. يطلب سفراء دول كبرى كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وكذلك ممثل الأمم المتحدة مواعيد من باسيل للإستفسار عن سر هذه “النقلة” من التكنوقراط إلى السياسية أو التكنوسياسية، فكان يجيب، وبكل أريحية، أن “الثنائي الشيعي”(حزب الله وأمل) هو الذي طرح فكرة الحكومة السياسية غداة إغتيال سليماني. صُدم هؤلاء بالجواب، وقالوا ما يجب قوله، لكنهم طلبوا مواعيد متفرقة للإجتماع ببري وشخصيات مقربة من حزب الله. كان السؤال الأجنبي واحداً: لماذا إنقلبتم على الرئيس المكلف وأصبحتم تريدون حكومة سياسية؟ كان الجواب “هذا ليس مطلبنا. إنه مطلب جبران باسيل”. ولكن الأخير (باسيل) أبلغنا أن “الثنائي الشيعي” يقف وراء المطلب، سأل السفراء، وكان الجواب عليهم بصيغة سؤال: وهل باسيل ينتمي إلى “الثنائي الشيعي”؟

السفير الفرنسي ألمح إلى أن القطريين، كانوا وعدوا بمساعدة لبنان وهم ينتظرون تأليف الحكومة، فضلا عن إعادة تحريك ملف “سيدر”. المناخ نفسه موجود عند دياب، ولا يتواني عن القول إن السعوديين والإماراتيين مستعدون لدعم لبنان

طبعاً، هذه ليست المرة الأولى التي ينسب فيها باسيل أمراً من هذا النوع إلى حزب الله أو بري. فعلها سابقاً، ولكنها تكررت في وقت قياسي مرتين على الأقل. قبلها بايام، كان قد قال لتلفزيون الجديد إنه طالب منذ اليوم الأول لإستقالة الحريري بتشكيل حكومة وحدة وطنية. الحقيقة أن الرجل تبنى منذ اليوم الأول خيار حكومة اللون الواحد، ولعل من أقنعه، وبصعوبة كبيرة، بالسير بخيار “لم الشمل”، هو بري وحزب الله.

تركت تصرفات باسيل ندوباً جديدة في العلاقة مع “الثنائي”، طبعاً ستجري محاولات لترميمها، كما جرت العادة، لكن حالة الزئبقية السياسية، مرشحة للإستمرار، كلما إرتفع “الأدرينالين الرئاسي” في مكان ما في الجمهورية.

ثانياً، أظهرت مداخلات السفراء الأجانب، ولا سيما الأميركية، أن لا مشكلة خارجية في موضوع هوية الرئيس المكلف أو الوزراء. الأولوية لتطبيق الإصلاحات، وثمة فرصة لمساعدة لبنان، وهذه الأخيرة، شدد عليها السفير الفرنسي أكثر من مرة، ملمحاً إلى أن القطريين، كانوا وعدوا بمساعدة لبنان وهم ينتظرون تأليف الحكومة، فضلا عن إعادة تحريك ملف “سيدر”. المناخ نفسه موجود عند الرئيس المكلف، ولا يتواني عن القول إن السعوديين والإماراتيين مستعدون لدعم لبنان.

ثالثا، ما هو الوحي الذي نزل على الجميع، فإقتنعوا بما كان يصعب القبول به؟

هنا تتراوح الأجوبة بين إحالة الأمر إلى رسائل خارجية وصلت للجميع وبين كلمة “لا” قاطعة أبلغها الحريري لكل من يعولون على عودته لرئاسة الحكومة، خصوصاً وأنه في إتصالاته (التي تجاوزت العشرة) مع “الثنائي” أبلغهم موقفاً واضحاً برفض خيار حكومة التكنوسياسية وأنه يقبل فقط بخيار حكومة التكنوقراط، وهو الأمر الذي لن يعطى له على الإطلاق، ربطاً بتموضعه السياسي، إقليمياً، وهذه نقطة قوة حسان دياب. الأرجح أن أجوبة الحريري قطعت الطريق على أية فرصة متاحة لعودته. زدْ على ذلك، نصيحة ناعمة تبلغها الجميع من حزب الله بوجوب عدم الخروج من خيار حسان دياب. “فالرجل لم يخطىء معنا أبدا، ونحن لا ننصب كمائن وهذه ليست أخلاقياتنا في السياسة. أعطوه الفرصة”.

ثمة كمين نُصِب للرئيس المكلف، فهل يستفيد منه الأخير، ويجعل الآخرين يستفيدون أم يدفعون الثمن؟ لننتظر كيف ستحل مسائل مثل الثلث المعطل، الحقائب، الأسماء (وتحديداً دميانوس قطار)، والعقدة الدرزية

عوامل ثلاثة (خارجية وحريرية وحزب اللهية) ليست كافية للقول أنها أدت إلى تغيير موقف الجميع. هنا يأتي العامل الرابع والحاسم، على الأرجح. كل التقارير التي وضعتها الأجهزة العسكرية والأمنية، كانت تشي بموجة جديدة من العنف ستتصاعد وربما يتخلله دم، خصوصا وأن جيش العاطلين عن العمل والمتضررين يكبر، وإذا حصل إنفجار كبير، لن يكون بمقدور أحد إخماده، وربما تكون له تداعيات ليس على الإقتصاد والمال (الإنهيار حاصل أصلاً) بل على الأمن والسياسة (الصيغة).

أعطت تقارير الأجهزة صورة عن “غليان الأرض” وهي لا تستثني بيئة أحد. ما جرى في شارع الحمراء، ليل الثلاثاء ـ الأربعاء الماضي، كان منتظراً وربما بوتيرة أعنف، وهو مشهد مرشح لأن يتكرر. لذلك، صار لسان حال الجميع أن الحكومة يجب أن تتألف قريباً (خلال أسبوع كحد أقصى)، وإذا لم تتألف، فإن الأمور مرشحة لأن تتخذ منحى عنفياً أكثر. عندها، لا يعود المستهدف فقط رياض سلامة، حاكم المصرف المركزي (كان لافتأ للإنتباه دفاع ممثل الأمين العام للأمم المتحدة يان كوبيتش عنه وقوله إن سلامة هو الوحيد الذي يعمل على معالجة الأزمة القائمة في وقت لا يقوم السياسيون بأي شيء”!

يأتي تصريح كوبيتش في موازاة “قبة باط” للحراك بأن يركز سهامه على رياض سلامة والمصارف. في هذا السياق، كان لافتاً للإنتباه كلام عضو كتلة الوفاء للمقاومة حسن فضل الله بأن مسؤولية أساسية في الأزمة “تقع على حاكم مصرف لبنان وكل التبريرات وما سمعناه (مقابلته مع الزميل مرسيل غانم) لم يقنعنا”، مذكراً رياض سلامة بوعده “بالتحقيق في التحويلات التي جرت منذ بداية العام 2019 (وليس بعد 17 ت1/أكتوبر 2019)، وهو وعد لم يطبق حتى الآن، ونحن نحمله المسؤولية حيال ما وصل إليه الوضع النقدي والمالي، فالسياسة التي يعتمدها أوصلتنا إلى ما نحن عليه الآن”.

هذا أوضح موقف يصدر عن حزب الله بتوجيه الإتهام إلى رياض سلامة، وهو يفتح الباب أمام أسئلة حول جدية كل الفرقاء، بفتح ملف التحويلات، خصوصا وأن بعض السياسيين بدأوا يتهمون بعضهم البعض، كما أن الإتهامات تشمل كبار المصارف (تهريب أموال المساهمين من أصحابها للخارج)، والأخطر أن الإتهامات بدأت تصل إلى عتبة بعض الحاكمين بأمر الليرة اللبنانية، فهل للتأليف صلة بفتح هذا الملف على مصراعيه؟

الساعات الـ 72 المقبلة حاسمة حكوميا. حسان دياب متمسك بثوابته. المعيار في قدرة الآخرين على تدوير زوايا مطالبهم. ثمة كمين نُصِب للرئيس المكلف، فهل يستفيد منه الأخير، ويجعل الآخرين يستفيدون أم يدفعون الثمن؟ لننتظر كيف ستحل مسائل مثل الثلث المعطل، الحقائب، الأسماء (وتحديداً دميانوس قطار)، العقدة الدرزية، طالما أن لا عودة عن حكومة التكنوقراط ولا عن تشكيلة الـ 18 وزيراً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى