يشكّل ارتفاعُ وتيرة «التأنيب» الدولي للسياسيين اللبنانيين معطوفاً على انكفاء مدوٍّ من العالم العربي مؤشراً بالغ الدلالات حيال «الأضرار العميقة» التي أصابتْ «بلاد الأرز» وصورتها ومكانتها، هذا إذا كُتب لها أن «تنجو» من الأزمة «الأعتى» التي تضربها منذ عقود وباتت تشي بسقوط «الهيكل» على مَن فيه.
ولم يعد المسؤولون الأمميون ولا السفراء الغربيون يكتمون «صدمتهم» من مشهدٍ «لا يصدّقونه» في «بلد العجائب» وصاروا يرفعون الصوت حياله «بلا قفازات ديبلوماسية» في ملاقاة إمعان أطراف السلطة في ممارسة ما يشبه «الرقص فوق جثث» واقعٍ مالي – اقتصادي مُتهالكٍ يُعانِدُ مؤشراتِ «الموت السريري»، ووضعٍ معيشي – اجتماعي «يبتلع» تباعاً فئات لبنانية إلى خطّ الفقر وما تحته، ونظامٍ سياسي بات عنوان أزماتِ حُكْم وحكومات متوالدة.
وليس عابراً أن يبادر المنسق الخاص للامم المتحدة في لبنان يان كوبيتش أمس، وعلى «دفعتيْن» في تكرارِ موقفٍ «توبيخي» – سبق أن أطلق «أوّل غيثه» قبل أيام – من التأخر في استيلاد الحكومة الجديدة وإدارة الظهر للانتفاضة التي تجدّدت في الشارع وذلك في غمرة «اندفاعة الايجابية» التي عمّمها أطراف الائتلاف الحاكِم (فريق رئيس الجمهورية ميشال عونو«حزب الله» ورئيس مجلس النواب نبيه بري)، على وهج استعادة «ثورة 17 اكتوبر» غَضَبها، بأن مسارَ التأليف قد يبلغ «محطة الوصول» خلال أيام لا تتعدى الأسبوع.
فكوبيتش لم يتوانَ عن وصْف «يوم التفاؤل» الذي سُرّبت مناخاته الأولية على وقع «الليل الساخن» في محلة الحمراء – بيروت والاستهداف «الممنهج» للمصارف في الشارع الأشهر في العاصمة اللبنانية، بأنه «يوم آخر من الغموض في ما خص تأليف الحكومة فيما تظاهرات الغضب التي تتصاعد وتيرتها والاقتصاد الذي يسقط بلا كوابح»، ليتوّجه إلى السلطة السياسية: «أيها السياسيون، لا تلوموا الشعب بل لوموا أنفسكم على هذه الفوضى الخطيرة»، مضيفاً: «لبنان بلد فريد، حاكم مصرف لبنان يطلب صلاحيات استثنائية، على الأقل لإدارة الاقتصاد بينما هؤلاء السياسيين يتفرجون عليها وهو ينهار، إنه أمرٌ لا يُصدَّق».
وهذا الموقف العالي السقف الذي جاء في تغريداتٍ على صفحته على «تويتر» بلْوره أكثر كوبيتش بعد زيارته بري إذ كشف أنه نقل رسالة من الامين العام للأمم المتحدة «بضرورة تشكيل حكومة في اسرع وقت، وننتظر لنرى اذا كانت الحكومة فعلاً خلال أسبوع»، مضيفاً «لبنان بلد العجائب فيه أتعلم كل يوم أن ما من شيء مجاني».
واعتبرتْ أوساطٌ سياسية أن مواقفَ المسؤولِ الأممي التي تَرافَقَتْ مع اعترافِ السفير البريطاني كريس رامبلينغ بـ«الإحباط» لاستمرار غياب حكومةٍ «لبنان بأمسّ الحاجة إليها»، تعكس تَعاظُمَ القلقِ الخارجي من مآلاتِ الواقعِ اللبناني وحرصَ المجتمع الدولي على إشهارِ ما يشبه «العين الحمراء» على السلطة السياسية وأدائها، متوقّفة في الوقت نفسه عند استعادة كوبيتش في ظلّ معاودة وضْع قطار تأليف الحكومة على السكة والكلام عن محاولة تدوير زوايا شكْلِها ومضمونِها (بين أطراف التحالف الثلاثي و«تكليف اللون الواحد» لحسان دياب) «معايير» مجموعة الدولي للبنان وفق ما كانت أكدتها في اجتماع باريس الأخير الشهر الماضي «لحكومة فعالة وذات صدقية تلبي التطلعات التي يعبّر عنها كل اللبنانيين وتكون لديها القدرة على القيام بالإصلاحات الاقتصادية الضرورية وتكون ملتزمةً بتحييد لبنان عن التوترات والأزمات الاقليمية».
ورأت الأوساط أن ما يعزّز «الخلاصات ما فوق الخيال» لكوبيتش هو أنه وفي حمأة ما عبّر عنه الزخم المتجدد للانتفاضة والذي استمرّ أمس، ثمّة مَن كان قادراً على رسْم أكثر من سيناريو لمشهدِ الشغب في «الحمراء» الذي بدأ بمواجهات أمام مقرّ مصرف لبنان وتَمدَّد إلى الشارع الذي يضمّ عشرات المصارف (والمؤسسات التجارية) التي كُسرت منهجياً واجهات العديد منها وحُطمت صرافات آلية وسط مواجهات مع القوى الأمنية (أعلنت أن 47 عنصراً منها بينهم أربعة ضباط أصيبوا جراء المواجهات مع توقيف 59 مشتبهاً فيهم)، وأبرز هذه السيناريوهات:
• أن الاعتداءات التي ظَهَر في واجهتها أشخاص أعلنوا عبر الشاشات أنهم من مناصري «حزب الله» وحركة «أمل» (نفى الطرفان علاقتهما بما جرى) هي في إطار «ركوب» موجة الشارع وحرْفها في جانبٍ منها، إما لدفْع الرئيس المكلف للاعتذار وإما جعْله يليّن موقفه من شروط فريق عون وبري التي تراوح بين رفْعِ عدد وزراء الحكومة إلى 24 عوض 18 وتطعيمها بسياسيين معلَنين عوض قصْرها على تكنوقراط بقبّعات سياسية (تسميهم أحزاب التحالف الثلاثي) وحجب بعض الأسماء المسيحية خصوصاً لمصلحة أخرى يكون لـ«التيار الوطني الحر» الكلمة الفصل فيها.
• أن «غزوة المصارف» هي في سياق «تصفية حسابات» مع حاكم «المركزي» رياض سلامة ومجمل القطاع ربْطاً بعقوباتٍ أميركية آتية على «حزب الله» وحلفاء له أو على شخصيات تحت عنوان «الفساد».
• أن استهداف المصارف يحمل رسائل ضغط عليها تحت سقف مسارٍ عبّر عنه «حزب الله» ويروّج لـ«حل محلي» للأزمة المالية يرتكز على استعادة المصارف أموالها من الخارج، من ضمن مناخٍ يحاول تحميل المصارف وسلامة المسؤولية الكاملة عما آل إليه الواقع المالي، الأمر الذي بدأت تخرج أصوات علناً تعتبره «تمويهاً للأكلاف التي رتّبها المشروع الاقليمي للحزب على الواقع اللبناني وخصوصاً منذ الانقلاب على حكومة الرئيس سعد الحريري العام 2011 وإلحاق البلاد بـ محور الممانعة، وصولاً اليوم إلى محاولات إرساء ما يشبه الاقتصاد المُقاوِم».
وكان معبّراً أمس إعطاء رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري، في معرض إدانته «الهجمة التي تعرض لها شارع الحمراء»، إشارة ذات دلالات إلى أن «رياض سلامة يتعرّض لحملة اقتلاع معروفة الأهداف»، متحدثاً في الوقت نفسه «عن هجمة تستهدف بيروتودورها كعاصمة ومركز اقتصادي»، ومعلناً «نحن في حكومة تصريف الأعمال ولن أكون تحت أي ظرف على رأس حكومة لتغطية أعمال مدانة».
وجاء مجمل هذا الصخب، فيما كان ملف تأليف الحكومة يتلقى «جرعة إيجابية» لم يكن ممكناً الجزم إذا كانت ستوصل إلى «خواتيمها السعيدة» خلال أسبوع كما أعلن بري، وذلك في ضوء استمرار الغموض حيال مرتكزاتها، وإن كانت تستند في الظاهر إلى معادلةٍ عنوانها، أن حلفاء دياب الذين سمّوه منحوه «فرصة ثانية» واستفادوا من ضغط الشارع لمحاولة جرّه إلى شروطهم بعدما بدا أنهم «علِقوا بتسميته» ولم يعد هناك مجال «دستوري» للتراجع عن تكليفه، فيما الشارع الساخط مَنَح الرئيس المكلف والجميع «فرصة أخيرة» لـ48 ساعة لتشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين أي بعيداً من أي محاصصة سياسية أو حزبية وذلك قبل التصعيد الكبير.
ويُنتظر أن يلتقي بري اليوم الرئيس المكلف في إطار مسعى للعمل على تشكيلة من 24 وزيراً، في ظل معلومات عن أن رئيس البرلمان وخلال اللقاء المطول مع رئيس «الوطني الحر» الوزير جبران باسيل تفاهما على أن يتراجع بري عن شرط الحكومة التكنو – سياسية وأن يرجئ الثاني حسم موقفه من الخروج من الحكومة على أن يكون التنازُل الممكن من دياب بالقبول بتشكيلة من 24، دون أن يُعرف إذا كان «مناخ التسهيل» الذي لم يُحسم إذا كان ينطوي على مشاركة «التيار الحر» وبري في تسمية وزرائهما هو في إطار «استفاقة» تدارُكاً لغضبة الشارع والمجتمع الدولي أم في سياق سيناريو للذهاب بدياب إلى مجلس النواب «للتخلص منه» بعدم منح حكومته الثقة.