الجوع في كلّ مكان، يربّي.
الجوع هنا، كما في كلّ مكان، يربّي مواهب الألم. الحرّيّة. التواضع. الإمّحاء. الصداقة. الحبّ. الألفة. التضامن. الكرم. التضحية. ومواهب البذل السرّيّ الكتوم الخفِر، حيث لا تعرف يمناكَ ما صنعتْ يسراك.
الجوع يربّي مواهب النبل. الفروسيّة. البطولة. الأنفة. الإباء. التمرّد. الرفض. عدم الرضوخ. والجوع يضع المرء الجائع على سكّة البحث الأصيل عن اللقمة الأصيلة. عن حبّة الزيتون. عن أوراق الزوفى. الخبّيزة. وعن الأسس الأصيلة. والمعايير النبيهة. والحقوق المهدورة.
الجوع يربّي مواهب الأمل والصلابة. يطحن الصخور. يمهّد الجلول. يرتّب الحفافي. يغرس. يبذر. وينتظر.
الجوع يربّي الجائع على تحمّل الجوع. على عدم الاستعطاء. على رفض مدّ اليد أمام الوحش طلبًا لرغيفٍ مستحَقّ.
الجوع يربّي الجائع على تفجير مواهب الهزء. والسخريّة. والهجاء المقزع. والتجرّؤ الذي إذا تفجّر وأفلت من عقاله، لا يقف عند حدّ.
الجوع يربّي مواهب البراكين. الزلازل. ومواهب الجبال والثلوج التي تتشلّق. مثلما يربّي مواهب الحقد. والبغض. والكراهة. والضغينة. والاحتقار. والازدراء. والانتقام. والثأر. والثورة.
الجوع يقضّ المضاجع. يقتحم الأبواب المغلقة. يردم جدران الفصل الطبقيّ والعنصريّ. يهدم الحصون المنيعة. يخرّب الأسرّة الهانئة. يمرّغ أصحاب المال. يسمّم ولائم الفحش والاستعلاء واللامبالاة. يهزّ العروش. يقلب الكراسي. ويشعل الليل الاستبداديّ البهيم بالنار التي لا تنطفئ.
الجوع هنا، كما تحت كلّ سماء، لا ينتهي الجوعُفيه على خير.
تحت أمرة الجوع، القوانين تتغيّر. الأنظمة تتغيّر. القواعد تتغيّر. المفاهيم تتغيّر. الأصول تتغيّر. الأخلاق تتغيّر. الأفعال تتغيّر. وردود الأفعال تتغيّر.
تحت أمرة الجوع، الآمن لن يعود آمنًا. الهانئ لنيعود هانئًا. السيّد لن يعود قادرًا على فرض سيادته. الغنيّ لن يعود متمكّنًا من غناه. المستبدّ، هنا، كما في كلّ مكان، هل يعود قادرًا على مواصلة استبداده؟!
تحت الجوع، تحت سلطة الجوع، الحرُّ الوحيدُ هو الجائع، لأنّه لا يهاب أحدًا، ولا شيئًا.
جوعُهُ هو طعامُهُ، وهو رئيسُهُ وأميرُهُ وملكُهُ ومفتيُّهُ وبطريركُهُ، وهو بوصلتُهُ، وهو حرّيّتُهُ، وهو ثورتُهُ، وهو قانونُهُ، وهو نظامُهُ، وهو دستورُهُ، وهو أمنُهُ، وهو جيشُهُ، وهو شرطتُهُ، وهو قواهُ المسلّحة. وهو منارتُهُ إلى البرّ الأمين.
تحت الجوع، تحت سلطة هذا الجوع، هنا، خصوصًا، الجائعُ هو الحرُّ الطليقُ الوحيدُ المتحرّرُمن كلّ شرط، والأقوى من كلّ شرط. ففي مقدوره، آنذاك، وتحت سلطة جوعه التي لا تُرَدّ، ولا تُقهَر، في مقدوره أنْ يسنّ “قانونًا” يبطش بالبطّاشين، ويستبدّ بالمستبدّين، وينغّص حياة أهل السلطة الفاسدين السرّاق الناهبين، ويبيح المحظورات، كلّ المحظورات. آمين.
تحت الجوع، تحت أمرة هذا الجوع الجائع الحرّ، كلُّ شيءٍ مستحيلُ الحدوث والتوقّع، سيكون ممكنًا ومتاحًا ومباحًا.
الجوع هنا خصوصًا، يربّي.
أنا جائعٌ، قال أحدهم، مُنذِرًا بالويل والثبور. وقال: لقد أُعذِر مَن أنذر!
Akl.awit@annahar.com.lb