أسئلة كثيرة يطرحها المواطنون العالقون بين مطرقة تعسّف المصارف وسندان غلاء الأسعار. أسئلة تُظهر بوضوح حجم الخوف على المستقبل الذي لا يبدو أنه يبشّر ببقعة خير.
ولا تنفكّ الأسئلة تدور حول ما يسهُل الإجابة عليه، وحول ما يحتاج إلى خبراء اقتصاديين لتفكيكه واستخلاص إجاباته. وبين السهل والصعب، يبقى تركيز المواطنين على ليرتهم التي تتناقص قيمتها لصالح الدولار، يوماً بعد يوم. فهل يهجر اللبنانيون الدولار ويتمسكون بعملتهم؟
حصانة للسياسيين
لم يُجبَر لبنان يوماً على دولرة اقتصاده، ولم يكن هناك حاجة في التسعينيات لربط الاقتصاد بالدولار، حتى مع الحاجة للاستدانة. فالمصارف كانت جاهزة لإقراض الدولة بالليرة اللبنانية.
ورغم الدولرة، استطاع اللبنانيون إيجاد نوع من التوازن في استعمالهم للدولار والليرة، لأن تثبيت سعر صرف الدولار جعل الـ1500 ليرة بيد الناس، تساوي حكماً دولاراً واحداً. ولم يسأل أي تاجر عن فارق السعر عند تصريف الـ1500 ليرة إلى دولار في المصارف او لدى الصرافين، لأن ربحه من المبيع، يغطي الهامش المسموح به للصرف، والذي كان يصل إلى 1515 ليرة وأحياناً إلى 1517 ليرة.
لكن مع ارتفاع حدّة أزمة شح الدولار وارتفاع سعر صرفه، يلجأ اللبنانيون إلى ترقّب بورصة سعر الصرف لتحويل الدولار إلى ليرة والاستفادة من الربح الإضافي. ما يؤكد أن الدولرة لم تهدف إلى إفادة المواطنين والاقتصاد والليرة من قوة الدولار، وإنما إفادة طبقة أوليغارشية تريد ضمان قيمة أموالها الآتية من مصادر غير قانونية. وليس هناك أضمن من الدولار لحفظ القيمة، خصوصاً عند تحويلها إلى المصارف خارج لبنان. فالمواطنون يلجؤون إلى عملتهم إن كانت قيمتها على قدر تطلعاتهم فقط.
مسألة ثقة
يتعامل اللبنانيون مع الليرة بالقدر الذي تؤمّن لهم ربحاً، ولا ينظرون إلى عملتهم بمنظار الأمان، فهم لم يثقوا بها حتى مع رمي مصرف لبنان لهم طُعماً عبر رفع الفوائد على الليرة. فكان تحويل الدولار إلى ليرة بهدف مراكمة بعض الأرباح، مع ترقّب أي تغيير لإعادة قلب الليرة إلى دولار. وهذا ما حصل مع بدء ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق من 1500 إلى 1600 ليرة.
وعليه، فإن التساؤل عن إمكانية تخلي المواطنين عن الدولار واستعمال الليرة حصراً، هو أمر “مبني على الثقة بالليرة وعلى التوقعات الايجابية لمستقبل البلاد واقتصادها”، وفق ما يقوله الخبير الاقتصادي ايلي يشوعي، الذي يشير في حديث لـ”المدن”، إلى أن الاعتماد على الليرة يجب أن يُسبَق “بخلق اقتصاد متنوع وقادر على المنافسة في الداخل والخارج، واعتماد المصرف المركزي على سياسات نقدية فعّالة، وعدم اقتصار دوره على إصدار التعاميم ورفع الفوائد”.
إلى حين استعادة الثقة، لا يجب على لبنان الاكتفاء بانتظار إعلان الانهيار أو الافلاس. فهناك إجراءات يمكن اتخاذها على مستوى العملة، وهي “إسناد الليرة إلى سلّة من العملات الأجنبية التابعة للدول التي تربطنا بها علاقات تجارية، وأهمها الاتحاد الأوروبي. لذلك يمكننا استعمال اليورو في التجارة وليس الدولار. خصوصاً وأن التبادل التجاري بين لبنان والولايات المتحدة الأميركية ليس كبيراً، قياساً مع التبادل بين لبنان والاتحاد الأوروبي”، على حد تعبير الخبير الاقتصادي جورج قرم، خلال حديث لـ”المدن”.
سوق الصرف الحقيقي
الاستعداد للتخلي عن الليرة لصالح الدولار عند أي منعطف اقتصادي ومالي، خلق مجالاً أوسع للصرافين لمراكمة أرباحهم، مستفيدين من ارتفاع الطلب على الدولار، في ظل شحّه في المصارف، وفي ظل تثبيت سعر الصرف الرسمي على 1515 ليرة، مقابل تخطيه 2200 ليرة فعلياً.
تلك الأرباح قانونية في شرع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي غضّ بصره عن السوق الحقيقي لسعر الصرف، وأصّر على اعتبار أن السعر الرسمي يمثّل السوق الواقعي. وبذلك، يستمر مصرف لبنان في سياسة عدم الاعتراف بأنه “هو المسؤول الأكبر عن المأساة التي تعيشها البلاد”، حسب قرم.
تحوّل سوق الصيارفة إلى سوق حقيقي بفعل الأمر الواقع، لم يحفّز مصرف لبنان على التدخل لمراقبة تلك السوق. وهذا ما يسجّله يشوعي كنقطة سلبية في سجل المصرف المركزي، الذي عليه التدخل من أجل “إبقاء تقلبات الصرف ضمن هامش محدد، صعوداً أو هبوطاً. لكن المركزي فَقَدَ قدراته وصارت السوق حراً بالكامل”.
إلى أين؟
يُبقي الخبير الاقتصادي لويس حبيقة هامش التفاؤل واسعاً، ويرى بأن “تشكيل الحكومة وحلحلة الوضع السياسي، من شانه تخفيض سعر صرف الدولار”. بمعنى آخر، رفع سعر صرف الليرة وإعادة الثقة إليها.
والتفاؤل حسب ما يقوله حبيقة لـ”المدن”، تبدأ بوادره مع “إعادة الناس أموالها المسحوبة إلى المصارف، بالإضافة إلى أموال السياحة بعد الانفراج السياسي”. اما المصارف، “فلديها الدولار، لكنها تنتظر الحل السياسي لتعرف مسار الأزمة، ولتحدد وفقه آلية توزيعها للدولار من الآن حتى انتهاء الأزمة. فكلما طالت الأزمة السياسية، لجأت المصارف إلى إجراءات أكثر صعوبة، وكلما تراجعت الأزمة، خفّفت المصارف اجراءاتها”.
مقابل هذا التفاؤل، لا يبدو أن الأزمة مرتبطة كثيراً بالوضع السياسي، لأن السجالات السياسية قد تؤثر على السياحة، فيما جوهر الأزمة يقبع في السياسات المالية والاقتصادية التي هندسها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وغطّتها قانونياً القوى السياسية المستفيدة من الدولرة والابتعاد عن الليرة. لذلك، فإن استعادة زمام الأمور يستند على إعادة الثقة بالليرة كي يبدأ المواطنون تدريجياً التخلي عن الدولار في تعاملاتهم اليومية. ثم الركون إلى عملات أجنبية أخرى في التعاملات الخارجية. وبالتزامن مع ذلك، على السلطة السياسية الاعتراف بالفشل، وترك المجال لخبراء اقتصاديين حقيقيين، لوضع آليات علمية للخروج من الأزمة.
وحتى تحين تلك الساعة، سيحتمي المواطن بالدولار، حتّى وإن حوّله إلى ليرة، فالتحويل ينطلق من قوة الدولار تجاه الليرة، وليس حباً باقتناء الليرة.