زار سماحة شيخ العقل الشيخ نعيم حسن مؤسسة العرفان التوحيدية في السمقانية الشوف متفقداً القسم الديني ومطّلعاً على برنامج عمله ومنهجه التربوي، وذلك بحضور جمع من مشايخ وسوّاس الخلوات الدينية ومشايخ القرى في منطقة الشوف، ورافق سماحتُه قاضي المذهب الشيخ غاندي مكارم ومستشارو مشيخة العقل للشؤون الدينية الشيخ غسان الحلبي والشيخ نسيب ماضي والشيخ حسن ماهر ووفد من المشايخ ومن منطقة الغرب. وكان في استقبالهم رئيس المؤسسة الشيخ نزيه رافع وأمينها العام الشيخ سامي أبي المنى ومستشار الهيئة الإدارية الشيخ عزت عبد الخالق وأعضاء الهيئتين الإدارية والعامة وعدد من مسؤولي الدائرة الدينية ومدرِّسي التربية التوحيدية في مدرسة العرفان فرع السمقانية.
بداية الجولة استقبالٌ في مكتب رئاسة المؤسسة، ثمّ لقاءٌ في قاعة المدرسة رحَّب خلاله الشيخ أبي المنى بسماحة الشيخ والحضور، مؤكداً على أهمية الاحتضان الروحي للعرفان باعتبارها رسالة وأمانة بين أيدينا، ومركِّزاً على الاحتضان الأول للعرفان من قبل المرحوم الشيخ أبو محمد جواد وليّ الدين في فترة التأسيس والانطلاق وما كان له من أثرٍ بالغٍ في تحديد أهدافها ومسارها، وعلى رعاية دار المختارة للمؤسسة ودعمها منذ تأسيسها وحتى اليوم، ممَّا أثمر تطوراً وانتشاراً لمدارس العرفان، وتكاملاً في دور العرفان التربوي والاجتماعي والديني، وقد اهتمَّت المؤسسة بزرع بذور القيم والفضائل في نفوس النشء وتغذية أرواحهم وعقولهم بغذاء الإيمان والتوحيد، إضافةً إلى غذاء العلوم والمعارف، وكانت وما تزال حريصةً على إقامة التوازن بين التطور والتحديث التربوي وبين الاهتمام بالرسالة التوحيدية التي هي الأساس، وعلى التكامل مع مشيخة العقل والمجلس المذهبي ومؤسسات الطائفة والوطن، وعلى وحدة الموقف، من أجل النهوض بالمجتمع التوحيدي وتربية أبنائه تربية صالحة، ورعاية المحتاجين منهم دون تمييزٍ أو تفرقة.
وبعد عرض درسٍ نموذجيٍّ قدَّمه أحد معلمي التربية التوحيدية مع مجموعةٍ من التلاميذ بواسطة اللوح التفاعلي، القى شيخ العقل كلمة جاء فيها،” ليست المرة الأولى التي نلتقي في هذا الصرح الكريم مع مشايخ أفاضل وأخوة وأخوات مبتغاكم ومبتغانا صلة القلوب مع الربّ المعبود. فمؤسسة العرفان هي مبادرة صلاح ونهضة مباركة جاءت في توقيت دقيق من حيث تبدّل طرائق العيش اليومي وأصبحت العلوم المختلفة يحتاجها الموحّد لاكتساب مهنة توفّر له الرزق الحلال.( مع التمييز). ومعلُوم أنَّ الشيخَ الجليل أبا محمَّد جواد رحمات الله تعالى عليه كان يذكر الدائرة الدينيَّة العرفانيَّة من حيث أنَّها يجب أن تكونَ في المؤسَّسة محطّ اهتمامٍ من أولى الأولويَّات. لأن ثمارها هي الجوهر الباقي من العَرَض الفاني ولأنّ الجسم بالروح يحيا. إنَّ المعنى الحيويَّ الَّذي نتظلَّل به في هذا اللقاء الَّذي نرجوه ميمونا، هو ما يُمكن أن يُسمَّى “فِقْــهُ مسؤوليَّةِ التربية التوحيديَّة”. ويُرادُ بالفِقه هنا فِعلُ فَـقِـهَ أي: فهمَ الأمرَ وأدركهُ بعد تفكِير وأحسَنَ إدراكَهُ، والفِقهُ هو الفَهمُ والعِلمُ والفِطنةُ. والمسؤوليَّةُ هي في حالُ أو صفةُ مَن يُسأل عن أمرٍ تقع عليه تَبِعتُه، فالـمـُـــرَبِّي هو مَن تحمَّلَ مسؤوليَّةَ التهذيب والتعليم والتنشئة. فإذا كانت التربية الاجتماعية قوام كلّ مجتمع يتطلع الى السمو، فكيف الحال في مجال “التربية التوحيديَّة” تحملُ كلُّ تلكَ المعاني مفهومَ الالتزام الصَّادِق في أدقِّ مقاصِده. ذلك أنَّ التَّبِعَات هنا مرتبطةٌ بالذِّمَّةِ الدِّينيَّة التي يُسأل فيها الـمُربِّي أمام الله تعالى في مرآةِ اللطائف الحِكَمِيَّة. إنَّ الأفعال في هذا الحقل الرُّوحاني اللطيف هي بالضَّرورة لازمة ومتعدية يُعبَّرُ عنها بالمثَل البسيط: لا يُمكِنُ أن تُضيءَ سراجَ غيرِكَ ما لم يكن سراجُكَ مُضاءً مُنيرا. فمن أوصاف العالِم ان يكون أعمل بعلمه من متعلّمه”.
واضاف،”لا شكَّ أنَّ الدائرة الدينيَّة العرفانيَّة حملَتْ شرفَ نصيبِها من المسؤوليَّة منذ تأسيسها برعاية شيوخ أفاضل أعيان. وراكمت الكثيرَ من الإنجازات من منشورات وندوات ودروس ورعاية روحيَّة وأخلاقيَّة لأجيال على مدى ما يُقاربُ نصف قرن. كلُّ هذا يُعتبَر ذخيرةً عمليَّة لكلِّ الـمُربّين والـمُربِّيات في هذا المجال الشَّريف. (وكم نتمنى ان تتوثّق عرى التعاون مع اللجنة الدينية والمصلحة التربوية في المجلس المذهبي). ما يُمكِن أن يُذاكرَ به اليوم هو التطوُّر المتسارع في أدوات التواصُل والوسائل السمعيَّة-البصَريَّة التي من شأنها أن تُغرقَ الحواسَّ الظاهرة بالمؤثِّرات الهائلة التي تجتاحُ العالَـمَ الـمُعاصِر. وموضعُ الـهَمِّ هنا هو الأجيال الناشئة والتَّفكير في الأساليب التربويَّـة وطُرُق المخاطبة ومنهجيَّات الـمُذاكرة بمعناها التعليميّ التي تهدِفُ إلى مواجهة شتَّى أنواع الإغواء النَّفسي والمغالطات الفكريَّة والنَّزَعَات الضّدِّيَّة التي تُبعدُ الذّات عن نهجِ الحقائق الـمُحقِّق للسَّجايا الإنسانيَّة الرَّفيعة، وفي الآن عينِه تهدفُ أيضاً إلى توليد الصِّلة الحيَّة بمعاني الفضل والشرف والعفاف من حيث هي وسائل تحقُّق لفضيلة الذَّات واتّحادها بآثار العقل الأرفع وبالتالي، إقبالها على ما يُحرِّرُ طريقَها إلى وعي الغاية الأشرف من وجودها في هذا العالَم. من هذا المنظور يُطرحُ السؤالُ الكبير: كيف يُمكنُنا جميعاً أن نتلافى الاطمئنانَ اللفظيّ الجامد نحو إذكاء المشاعر الوجدانيَّة الحيَّة لتحقيق القاعدة الذهبيَّة التي تستندُ إليها الدّيانةُ السَّليمة وهي: “تهذيبُ الأخلاق واستشعار الخلَّاق. إنَّها قاعدة مـحوريَّـة تهدي إلى السبيل الصَّحيح لكلٍّ من المفترضات المسلكيَّة والعقائديَّة. ويمكن الاستئناس بالقواعد الجوهريَّة من الأصُول الشَّريفة ومنها قاعدة: أدب الدين قبل الدّين، مع الإشارة التي ذكرها الأمير السيِّد قدَّس الله روحَه وأوضحها الشيخ الفاضل (ر) بأنَّ الأدب هنا هو طبائع الخيْر التي تؤتي ثمرها تحديداً بالتوازن بينها من دون غلبةِ سجيَّةٍ على ما قابلها تحت طائلة فساد نظام النَّفس. وكم نتمنى ان تعتمد الدائرة الدينية سيرة الفاضل العلم الشيخ أبو حسين محمود فرج في مذاكراتها”.
وتابع،”ُيمكن ذِكر قاعدة ثانية جوهريَّة تُعتبَر أصلًا ضروريّاً من أصُول سلامة الدّيانة وهي: سلامة النَّظر بالبصيرة في السلوك التوحيديّ بكلِّ خفاياه لا بالأبصَار. ومن لم تنكشف بصيرته بالحقّ فقد فاته العدل الذي هو محراب الضمائر والسرائر. ولا يُمكن أن تنكشفَ البصيرة بقلبٍ منغمسٍ في المقاصِد الدنيويَّة إلى الحدِّ الَّذي يُلهِيه ويُذهلُه عن استبصار لطائف المعلوم الشَّريف ومأثورات السلَّف من الأفاضِل الكبار. وكم نحن بحاجة الى التقيّد بصفات الموحّد التي ذكر السيّد الأمير (ق) ” من مَنَحه الله بالقبول والترقي والعروج الى حدّ الإنسانية، كان من ثمرة أفعاله العقل والحِلم والسكون والرزانة والرجحان، والعفاف والصيانة والنظافة والطاعة والطهارة ومكارم الاخلاق، والزهد في المطالب الدنياوية، والخوف والمراقبة والثبات على الأوامر، والتزام النواهي، والصبر والاحتمال والغضو عن بلوغ الأغراض. إنَّ ما سبق ذكره يتضمَّن أموراً لا يمكن على الإطلاق أن لا تكون جليَّة واضحة ومترسِّخة بالعمل والتحقُّق في نفوس وعقول كلِّ العاملين على الخصوص في الدائرة الدينيَّة. ومن بابٍ ثانٍ يجبُ الانتباه إلى أنَّ الوسط المدرسيّ وهو استكمال للوسط الأساس أي “الكنف العائليّ”.
واستطرد، “في أوّل احتفال للعرفان قال سماحة شيخ العقل الراحل الشيخ محمد أبو شقرا ” أنّ الحاجة ملحة الى مثل مؤسسة العرفان في هذا العصر أكثر من الحاجة الى الخبز لأنه بالعلم المفيد تحيا الأرواح”. وإذ نحن نوافقه على هذا القول فإننا نرى وفي هذا العصر الاهتمام بالخبز أيضاً ,هو أمرٌ في غاية الأهمية في العصر الحاضر”.
وختم،” لا يسعني إلّا أن أقدّم لمؤسسة العرفان، لمديرها العام فضيلة الشيخ نزيه رافع، ولجميع أعضاء مجلس الإدارة والعاملين فيها قربان الشكر من الجَنان قبل اللسان، ومن اللطافة قبل الكثافة، دون أن ننسى أفضال المؤسس الشيخ علي زين الدين. نسأل الله تعالى أن يسدِّدَ خطانا، وينير بصائرَنا، ويلهمَنا إلى كلِّ ما فيه الخير والفلاح في المسالِك الشريفة التي بها وحدها تُكتَسب مدارك التوحيد التي بها تحيا النفوس الطيِّبة والمجتمعات الصالحة”. كما شدد سماحته على ” وحدة الكلمة والموقف وجمع الشمل، لا سيما في هذه المرحلة الدقيقة التي نمر بها”، مطالبا “الشيوخ كل في منطقته ومجتمعه الى الحث على التمسك بالاصول والتقاليد الشريفة”.
وختام الزيارة كان في القسم الديني حيث تفقّد شيخ العقل والمشايخ صفوف القسم وباركوا المعلمات والطالبات بالتوجيه والتلاوة العطرة والتشجيع، وقد استهلَّ رئيس المؤسسة الشيخ رافع اللقاء بكلمة، استذكر فيها مراحل التأسيس ووصايا الشيخ أبو محمد جواد وليِّ الدين الشفهية والمكتوبة منها، والتي أوصى فيها بالقسم الديني كأساسٍ لنجاح العرفان والتوفيق الله تعالى، وأكَّد الشيخ رافع في كلمته أنَّ المؤسسة تحمل الوصية وتتحمَّل المسؤولية وتحرص كلَّ الحرص على رعاية هذا القسم في كلِّ مدارس العرفان، بمساعدة الخيِّرين وبتصميمٍ ثابتٍ ودائم من رئاسة المؤسسة وإدارتها، وإذ ذكَّر بالمشايخ الأوائل الذين احتضنوا المؤسسة وواكبوا انطلاقتها، أكَّد “إنَّنا نعتبر أنّ القسم الديني هو جوهرة المؤسسة وخميرةُ وجودها، وأننا، وإن حدث أن أخطأنا يوماً أو قصَّرنا في العمل، لكنَّ ذلك لن يكون أبداً عن قصدٍ أو توانٍ، فنحن نسعى بكلِّ ما أوتينا من عزمٍ ورؤية مستمدَّة من شيوخنا الأفاضل إلى ما هو أحسن وأفضل وأكثرُ فائدة لمجتمعنا التوحيدي، والله وليُّ التوفيق”.