حتى إقدام لبنان على الخطوة الجريئة في التزام سياسة النأي بالنفس عن أزمات الآخرين وحروبهم وصراعاتهم، لم يؤد إلى جعله قادرا على حل مشكلاته الكثيرة بنفسه، بعيدا من تدخلات الدول ووساطاتها. تبعا لهذه الصورة، يبدو العارفون بالشؤون والشجون السياسية اللبنانية في انتظار أن يبادر الشركاء والحلفاء إلى مد يد العون لبيروت الغارقة حتى العظم في أزماتها الحكومية، التي تأتي معطوفة على حالهم الاقتصادي والاجتماعي الذي بلغ هذا العام درجات استثنائية، وخطوطا حمرا ما اعتادها اللبنانيون يوما.
وفي وقت يجهد الرئيس المكلف حسان دياب لإثبات قدرته على وضع توليفة حكومية ترضي الناس المنتفضين في الشارع منذ 78 يوما والمجتمع الدولي، لا سيما الجهات المانحة المشاركة في مؤتمر سيدر، وإن بقيت الدول المعنية تاريخيا بالملف اللبناني على مقاعد الانتظار، ذكّرت مصادر سياسية تدور في الفلك المعارض للنهج عبر “المركزية” أن كبريات الأزمات اللبنانية الحديثة لم تحل إلا بعد تدويلها. ولا تجد المصادر مثالا أفضل من الحرب اللبنانية وقضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري مثالا لشرح هذا الاستنتاج. ذلك أن الأفرقاء اللبنانيين الذين تناحروا وتواجهوا بالأسلحة الثقيلة والأرواح والدماء على مدى عقد ونصف لم ينجحوا في وضع حد للحرب الأهلية إلا بعدما بذلت الدول العربية والأجنبية جهودا أفضت إلى توقيع اتفاق الطائف الذي أطلق العنان للدولة اللبنانية في حقبة ما بعد الحرب، وهي التي بدت سفينة يقودها اقتصاديا الرئيس رفيق الحريري. غير أن هذا الأخير عاد واغتيل في 2005، في ما اعتبر جزءا من مخطط لهز الأمن والوضع الاقتصادي في لبنان، والذي كانت فرنسا وسواها من أصدقاء لبنان مدوه بجرعات الدعم والصمود بفضل شبكة العلاقات الحريرية. غير أن الأهم يكمن في أن جريمة بحجم زلزال 14 شباط 2005، وبعض ما سبقها وتلاها من جرائم وتفجيرات متنقلة بقيت عصية على لبنان وقضائه المحلي، لا لشيء إلا لأن التركيبة الطائفية الهشة تبدو القاعدة التي لا تشذ عنها السلطة القضائية، ما فرض تدخل مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار (ملزم) أبصرت بموجبه المحكمة الدولية الخاصة بلبنان النور، وها هي تعمل منذ أكثر من عشر سنوات على كشف الحقيقة الكاملة وراء مقتل الحريري وعدد من شهداء موجة الاغتيالات التي عصفت بلبنان.
وإذ لفتت المصادر إلى أن العرب والعالم لم يتركوا لبنان وحيدا في مواجهة الأزمة السياسية التي ضربته عقب أحداث 7 أيار 2008، والتي كادت تفجر فتنة طائفية، فكان اتفاق الدوحة الذي أدى إلى انتخاب العماد ميشال سليمان رئيسا للجمهورية، نبهت إلى أن هذه ليست حال الاستحقاق الرئاسي الذي أوصل العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا. ذلك أن انتخابه بدا نتيجة التفاهمات المحلية التي نسجت حوله بعد أكثر من عامين من الفراغ. لكن المصادر لم تفوت على نفسها الاشارة إلى أن حتى هذا الاستحقاق ما كان اللبنانيون لينجزوه من دون ضوء أخضر اقليمي ودولي فرضه التقاء مصالح في لحظة سياسية معينة.
لكن المصادر لفتت في السياق إلى أن الضوء الأخضر هذا لا ينسحب على النهج السياسي السائد في البلاد منذ العام 2016، حيث أن الدول العربية والغربية الصديقة للبنان لم تخف امتعاضها مما تعتبره “سيطرة ايران من خلال حزب الله” على القرار السياسي والسيادي للبنان، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم الأزمات المتناسلة للبنان، في وقت يضع المجتمع الدولي شروطا لمد لبنان بالمساعدات أبرزها الالتزام الفعلي بسياسة النأي بالنفس عن صراعات المحاور، والابتعاد عن الفلك الايراني.
المركزية